وإذا كان الله تعالى عالما بظلمهم مجازيهم على ما يفعلون من آثام ، فهو لا يهملهم ، ولكن يمهلهم ، ولقد قال تعالى في ذلك:{ وأملي لهم إن كيدي متين ( 45 )} [ القلم] ، وفي هذا النص السامي يقول سبحانه:{ إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ( 42 ) مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ( 43 )} .
{ إنما} هنا أداة حصر ، أي كان التأخير لأجل هذا اليوم الذي يكون شديدا ، وفيه النفوس جميعا تكون في هلع وفزع ، فليس التأخير لنسيان ، أو غفو أو ترك ، إنما التأخير هو ليوم كله عذاب الأجساد والأنفس ، وإذا كانوا يمشون في الأرض مرحا ، ويستهزءون ويرتعون ويلعبون ويسخرون من المؤمنين فسيكون عليهم يوم عسير شديد ، وقد وصف الله تعالى حالهم في ذلك اليوم فذكر لهم خمس أحوال كل حال فيها تنبئ عن فزع بذاته .
الحال الأولى:ما ذكر سبحانه بقوله:{ ليوم تشخص فيه الأبصار} ، أي العين تشخص لا تغمض من هول ما ترى ، فإن إغماض العين يكون من الدعة والاطمئنان ، أما يوم القيامة يوم الفزع الأكبر ، فإنه لا يكون اطمئنانا ولا يكون دعة ، وتكون العين مفتوحة متسعة الأحداق من الأهوال التي تراها ، حتى كأنها مع فتحها وعدم إغماضها لا تشعر بشيء إلا الهول وأسباب الفزع .
والحال الثانية:هي ما قاله سبحانه وتعالى:{ مهطعين} ، ومعناها مسرعين فإنهم كانوا في الدنيا يسيرون متئدين مالكي أنفسهم مسيطرين على قواهم ، وكما قال في آية أخرى في وصف حالهم يوم القيامة:{ مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسير ( 8 )} [ القمر] ، والإهطاع إسراع في ذل وتكسر وخوف وهلع ، فبعد أن كانوا يسيرون في الأرض مرحا كأنهم يخرقون الأرض أو يبلغون السماء طولا يسيرون أذلاء خالفين لأول داع ، خائفين من أن يكون وراء الدعوة أمر أشد هولا .
والحال الثالثة:عبر عنها سبحانه وتعالى بقوله:{ مقنعي رءوسهم} من أقنع رأسه ، وتستعمل بمعنى رفعها متطلعا إلى من فوقها من شدة الهلع ، وقد قال في معناها الأصفهاني في مفرداته:أقنع رأسه رفعها قال:{ مقنعي رءوسهم} ، وقال بعضهم:أصل هذه الكلمة من القناع ، وهو ما يغطى به الرأس ، فقنع لبس القناع ساترا لفقره ، كقولهم حفى أي لبس الحفاء ، وقنع إذا رفع قناعه كاشفا رأسه بالسؤال كخفي إذا رفع الخفاء .
وخلاصة هذه المعاني أنهم يكشفون ذلهم وحاجتهم رافعين رءوسهم بالذل والهوان ، لا يستتر من أمرهم شيء ، فلا يبدون ما يخفون ، ويظهرون ما لا يسرون .
وذكر الزمخشري أن بعض علماء اللغة يفسر{ مقنعي رءوسهم} يخفضها ذلا وانكسارا ، ورءوسهم ارتفعت ، أو انخفاضها ، فهو ذل ظاهر واضح ، وصار كالسائل الذي كشف قناعه للمسألة .
والحال الرابعة من أحوالهم:أن أبصارهم زائغة لا تتحرك أطرافها من هول ما هم فيه وهذه عبر الله عنها بقوله تعالى:{ لا يرتد إليهم طرفهم} ، والمعنى أن أنظارهم قد استغرقتها الأهوال التي تراها فهي فزعة هلعة قد سمرت أعينهم فيما ترى من عذاب هو عذاب الهول الأكبر ، فلا ترجع إليهم ، أي لا تعود إلى سيطرتهم فترى ما يجب أن تراه وتمتنع عن رؤية ما لا يجب أن تراه ، فهي قد ملكتها تلك المرئية المفزعة ولم يعد له عليها من سلطان .
والحال الخامسة:أن أفئدتهم فرغت من أسباب الاطمئنان ، وامتلأت بأسباب الهموم والخوف ، وقد عبر سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله تعالت كلماته:{ وأفئدتهم هواء} ، أي لا تدرك شيئا ولا تعيه من شدة الخوف والهلع ، فهو كقوله تعالى:{ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا . . .( 10 )} [ القصص] ، أي أنه فرغ من الوعي والإدراك ولم يبق إلا موسى والخوف عليه ، والهواء في اللغة المجوف الخالي ، والمعنى أصبح فؤادهم مجوفا خاليا من العلم والإدراك الشدة ما رأى وما وقع ، ومن هذا المعنى قول حسان شاعر الإسلام من أبي سفيان قائد الشرك آن ذلك:
ألا أبلغ أبا سفيان عنى فأنت مجوف نخب هواء
وهذه الأحوال تصوير لحالهم يوم القيامة من فزع وذل وانكسار ، وامتلاء قلوبهم بالخوف والرهبة ، وإنها من آيات الإعجاز ، وكل القرآن إعجاز يبهر المدركين .