ولقد هدى الله تعالى نبيه بهداية القرآن ، وأنه الحجة ونعمة الرسالة ، وأخذ من بعد ذلك يبين أنه الغنى بالحق الأعلى وأنهم مهما يكونوا قد أوتوا من مال وجاه وقوة ، فلن يكونوا كمن هداه الله تعالى:فقال تعالت حكمته:{ لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين ( 88 ) وقل إني أنا النذير المبين ( 89 )} .
أي لا تطمع ، ولا تلتفت ، ولا يغرنك ما متعنا به أزواجا ، أي أصنافا متقابلة منهم فيهم الغنى وجاه الدنيا والقوة ، والغرور ، والطغيان ، والكفر .
وعبر سبحانه عن الطموح إلى ما هم فيه والغرور به{. . .فلا يغررك تقلبهم في البلاد ( 4 )} [ غافر] عبر عن ذلك بمد العين ؛ لأن هذا يسترعي النظر فكأن الأعين تمد إليه ، ولا تنحرف عنه .
لا يغرنك هذا ولا يسترعي نظرك ، فإن هذا أمر إلى فناء ، وما يدعو إليه أمره إلى بقاء ، وإذا كان ذلك أمر فيه متعة وقتية ، فقد أوتيتن الحكمة وفصل الخطاب ، أوتيت والقرآن ومثله معه ، وأي قدر مما أتوا يقارب قيمة ما أوتيت من الحق ، وعزة الحق ، ونهي الله تعالى عن الحزن على الكافرين كما نهى عن أن يغتر بهم ، فقال:{ ولا تحزن عليهم} ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وإذا كان لا يغتر بما أوتى المشركون من أسباب النعيم ، فإن من معه من المؤمنين هم الأولى بالرعاية والحفظ لأنهم الذين هم ذخيرة الإيمان ؛ ولذا قال تعالى:{ واخفض جناحك للمؤمنين} ، أي تطامن ، وارفق بهم ولن لهم بجنابك ،{. . .ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك . . .( 159 )} [ آل عمران] .
وقد عبر سبحانه عن لين الجانب والرفق وتقريب القلوب وإدنائها بقوله:{ واخفض جناحك} وذلك مجاز بالاستعارة مشهور ، فشبه سبحانه وتعالى حنو محمد صلى الله عليه وسلم على أتباعه ، بوضع الطائر بين جناحيه ، للمبالغة في الحيطة والحفظ والصيانة .
وإن هذا النص السامي تصغير لما عند المشركين ، وتعظيم لمن آمن ، كقوله تعالى:{ ولا تطرد الذين يدعون بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ( 52 )} [ الأنعام] .
وإن هذا النهي لصاحب الرسالة عن أن يمد عينيه إلى ما متع الله به الأقوياء وأعطاهم أزواجا متماثلة من متع الدنيا هو نهي لأمته ، وفيه بيان كيف يتدلى الحق إذا مد صاحبه العين إلى ما عليه أهل الدنيا ، فإنه هنا تكون المذلة ويكون التدني عن مقام الحق الأعلى ، إلى المنزلة الدون أمام أهل المال والجاه والسلطان والباطل ، وهو سلطان أهل هذا الإيمان .
ولقد قال القرطبي في تفسيره في التعليق على هذه الآية:"رأى القراء المخلصون من الفضلاء الانكفاف عن الذات والخلوص لرب الأرض والسموات أولى ، لما غلب على الدنيا من الحرام ، واضطر العبد في المعاش على مخالطة من لا تجوز مخالطته ، ومصانعه من تحرم مصانعته ، فكانت القراءة أفضل والفرار من الدنيا أصوب للعبد وأعدل قال صلى الله عليه وسلم:"يأتى على الناس زمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع المطر ، يفر بها من الفتن"ا . ه .
وأحسب أن زماننا أشد الأزمان فتنة في نفسه ، إذ تولاه الجهال ، وسيطر على الفكر الجهال ، وتولى على رياسة العلم من يبيعون دينهم لهؤلاء الجهلاء بثمن بخس مهما تكن قيمة الدرهم والدينار ، وصح فيه ما روى بحديث قوى السند حتى ادعى تواتره:"إن الله لا ينزع العلم انتزاعا من قلوب العلماء ، إنما ينزع العلم بتولى جهلاء يضلون ويضل بهم الناس"أو كما قال صلى الله عليه وسلم .