لا تشابه بين الخلق والخالق
ذكر سبحانه وتعالى خلقه ، وأن الوجود كله يتمتع بنعمة خلقه ، ومع هذه النعمة ، خلق نعما للإنسان إذ سخر له الشمس والقمر والليل والنهار ، وأتى بنى الإنسان من كل ما سألوه ، فالنبات والزيتون ، وغيره من الثمرات والبحر ، والفلك ، وما فيه من لحم طري إلى آخره .
كل هذا ، ومع ذلك يشركون بالله في عبادته سبحانه ما لا يملك شيئا ، ولذلك نبه سبحانه وتعالى إلى ضلال العقل في هذا الأمر ، ويذكرهم بذلك ؛ لأن فطرتهم تنفر منه ؛ ولذا يستشير سبحانه هذه الفطرة بحمل الإنسان على التذكر فيقول سبحانه:
{ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا يتذكرون ( 17 )} .
الاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع ؛ لأنهم فلا عبدوا الأحجار فجعلوا من خلق الوجود كمن لا يخلق شيئا ، وهو ذاته مخلوق ميت لا حياة فيه إذ هو جماد من الجمادات وحجر من الأحجار ، وإنكار الواقع توبيخ ؛ لأنه يكون استفهاما عن واقع غير معقول ، فيكون الجواب منهم إقرارا بأنهم يفعلون أمرا غير معقول .
و ( الفاء ) في قوله:{ أفمن يخلق} لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإنه يترتب على أن الله تعالى خالق الأشياء والنعم والأنفس ، وبذلك يكون هو المعبود وحده ، وإلا كان الأمر المستنكر عقلا ، وواقعا ، وهو أن يكون الخالق كالمخلوق ، بل إن يكون الخالق كأصغر ما خلق ، والفاء مؤخرة عن تقديم ، فحق القول بيانيا أن يكون فأمن يخلق كمن لا يخلق ، ولكن الاستفهام له الصدارة في الجمل فأخرت الفاء ، وكذلك في القرآن كل فاء جاءت بعد حرف الاستفهام ، والواو العاطفة كذلك .
ويلاحظ في النص السامي ما يأتي:
أولا:أن الله تعالى عبر عن الأحجار التي كانوا يعبدونها ب ( من ) الدالة على العقلاء ، فقال سبحانه:{ أفمن يخلق كمن لا يخلق} وكان ذلك لأنهم عدوها معبودة ، فكأنهم يعاملونها معاملة العقلاء ، فكان التعبير مساوقة لزعمهم ، ولأن بعض الذين يعبدون غير الله يعبدون عقلاء ، كالثالوت المسيحي ففيه العقلاء ، وقد أشركوا ، وقد يكون ذلك للمشاكلة ، والتسوية التي أرادوها بين الخالق والمخلوق ، وذلك مثل قوله تعالى:{. . .فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء . . . ( 45 )} . [ النور] وإن الله سبحانه في أكثر من آية يعيد الضمير عليها كالعقلاء ، كقوله تعالى:{ ألهم أرجل يمشون بها أن لهم أيد يبطشون بها . . .( 195 )} [ الأعراف] ، فهو نوع من مجاراتهم حتى تكون النتيجة بالموازنة أنهم ليسوا كمن خلق فقط ، بل هم دون من خلق أو بالأحرى دون من يعبدونهم .
ولقد ذكر الزمخشري أن سياق البيان كان أن يشبهوا هم بالخالق لا أن يشبه الخالق بهم ، فكان يقال أفمن لا يخلق كمن يخلق ، وقد أجاب عن ذلك ، أن الاستنكار موجه إلى المساواة بين الخلق والمخلوق ، فكأنهم جعلوه في ضمن المخلوقات ، وقد يجاب عن ذلك أيضا بأن سياق القول في بيان الخلق ، فكان موجبه أن يذكر الخالق أولا ، وكأنهم ينزلون من مرتبته التي لا تناهد إلى منزلة المخلوق ، وهذا في ذاته موضع استنكار .
ويختم الله سبحانه الآية بقوله:{ أفلا تذكرون} يقال في ( الفاء ) هنا ما قيل في ( الفاء ) في قوله تعالى:{ أفمن يخلق كمن لا يخلق} والاستفهام لإنكار الوقوع مع التوبيخ ، والتعبير{ أفلا يتذكرون} فيه إشارة إلى أن عبادة الأحجار من غفلة العقول ، وإنها تتذكر وتذهب الغفلة ، حتى تتنبه إلى حكم العقل وهو الوحدانية ، وذلك حق ؛ لأن عبادة الأوثان من سيطرة الأوهام التي تجعل العقل في غفلة تامة ، كما ترى في هذه العصور عند بعض النصارى .