وقد بين الله تعالى عمار الأرض بالوجود الإنساني ، فقال سبحانه:
{ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون ( 72 )} .
هذا بيان الخلق والتناسل ، وأنه من الزوجين ، وأن الله جعل الزوج من الزوج ، كما قال تعالى:{ يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ( 1 )} [ النساء] ، وقوله تعالى:{ جعل لكم من أنفسكم} ، أي خلق لكم من ذات أنفسكم أزواجا ، فتضمنت معنى الخلق ، وصيرورتها زوجا ، كما في قوله:{ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها . . . ( 189 )} [ الأعراف] .
وإن هذه الآية وما يماثلها من الآيات تدل على أن الزوجة خلقت من ذات الزوج ونفسه ، وأنهما أصل الوجود الإنساني وأن عمران الأرض ابتدأ بالأسرة ، والأسرة هي وحدة الجماعة الإنسانية ، واللبنة الأولى في بنانه ، وقد ابتدأ بالأسرة ومنها تتوالد الأسر فقال سبحانه:{ وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} ، والحفدة جمع حافد ككتبه جمع كاتب ، والحافد هو المسرع في الطاعة والخدمة ومنه قول القانت في قنوته:"وإليك نسعى ونحفد"، والحفدة تشمل أولاد الأبناء وأولاد البنات .
والكلام في الذرية الذين يتوالدون من الزوجين ، وحكى الزمخشري قولا غريبا فقد جاء فيه "وقيل وجعل لكم الغنى وجعل لكم حفدة ، أي خدما يحفدون في مصالحكم وبعيونكم"وهو قول غريب بعيد عن معنى الآية ، لأن الآية في بيان التوالد الإنساني من الزوجين والبنين والأحفاد كقوله فيما تلونا{. . .وبث منهما رجالا كثيرا ونساء . . .( 1 )} [ النساء] فما مناسبته الخدمة وهم أناسى كسائر الأناسى ، ولا يكون نعمة على الجميع أن يكون بعضهم خدما ؟ ! .
وإنه سبحانه وقد عمر الكون الإنساني بهذا التناسل الذي باركه رب العالمين فلم يخرجهم إلى الوجود غير مرزوقين محرومين ، بل خلق معهم أرزاقهم ،{ ورزقكم من الطيبات} ، و{ من} هنا بيانية ، والمعنى رزقكم الطيبات ، والطيبات هي الأطعمة والزينة واللبس ، والكسب الحلال ، كما قال تعالى:{ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق . . .( 32 )} [ الأعراف] والطيبات هي غير الخبائث ، وهي الأمور المقززة التي تعافها النفس كالميتة والدم ولحم الخنزير ، كما قال الله تعالى في وصف النبي الأمي في بشارة التوراة والإنجيل به:
{. . .الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليه الخبائث . . .( 157 )} [ الأعراف] .
ومع أنه أنعم عليهم بنعمة الوجود ونعمة التوالد وأكرهم بالرزق الطيب الحلال ، كما قال تعالى:{ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها . . .( 6 )} [ هود] .