/م70
وتقول الآية: ( واللّه جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ) ،لتكون سكناً لأرواحكم وأجسادكم ،وسبباً لبقاء النسل البشري .
ولهذا تقول وبلا فاصلة: ( وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ) .«الحفدة »: بمعنى: ( حافد ) ،وهي في الأصل بمعنى الإِنسان الذي يعمل بسرعة ونشاط دون انتظار أجر وجزاء ،أمّا في هذه الآيةكما ذهب إلى ذلك أكثر المفسّرينفالمقصود منها أولاد الأولاد ،واعتبرها بعض المفسّرين بأنّها خاصّة بالإِناث دون الذكور من الأولاد .
ويعتقد قسم آخر من المفسّرين: أن «بنون »: تطلق على الأولاد الصغار ،و«الحفدة » تطلق على الأولاد الكبار الذين يستطيعون إِعانة ومساعدة آبائهم .
واعتبر بعض المفسّرين أنّها شاملة لكل معين ومساعد ،من الأبناء كان أم من غيرهم{[2108]} .
ويبدو أن المعنى الأوّل ( أولاد الأولاد ) ،أقرب من غيره ،بالرغم ممّا تقدم من سعة مفهوم «حفدة » في الأصل .
وعلى أية حال فوجود القوى الإِنسانية من الأبناء والأحفاد والأزواج للإِنسان من النعم الإِلهية الكبيرة التي أنعمها جل اسمه على الإِنسان ؛لأنّهم يعينون مادياً ومعنوياً في حياته الدنيا .
ثمّ يقول القرآن الكريم: ( ورزقكم من الطيبات ) .
«الطبيات »: هنا لها من سعة المفهوم بحيث تشمل كل رزق طاهر نظيف ،سواء كان مادياً أو معنوياً ،فردياً أو اجتماعيا .
وبعد كل العرض القرآني لآثار وعظمة قدرة اللّه ،ومع كل ما أفاض على البشرية من نعم ،نرى المشركين بالرغم من مشاهدتهم لكل ما أعطاهم مولاهم الحق ،يذهبون إلى الأصنام ويتركون السبيل التي توصلهم إلى جادة الحق ( أفبالباطل يؤمنون وبنعمة اللّه هم يكفرون ) .
فما أعجب هذا الزيغ !وأية حال باتوا عليها !عجباً لهم وتعساً لنسيانهم مسبب الأسباب ،وذهابهم لما لا ينفع ولا يضر ليقدسوه معبوداً !!!
بحثان
1أسباب الرزق:
على الرغم ممّا ذكر بخصوص التفاوت من حيث الاستعداد والمواهب عند الناس ،إِلاّ أنّ أساس النجاح يمكن في السعي والمثابرة والجد ،فالأكثر سعياً أكثر نجاحاً في الحياة والعكس صحيح .ولهذا جعل القرآن الكريم ارتباطاً بين ما يحصل عليه الإِنسان وبين سعيه ،فقال بوضوح: ( وأنْ ليس للإِنسان إِلاّ ما سعى ){[2109]} .
ومن الأُمور المهمّة والمؤثرة في مسألة استحصال الرزق الالتزام بالمبادئ ،من قبيل: التقوى ،الأمانة ،إِطاعة القوانين الإِلهية والالتزام بأصول العدل ،كما أشارت إلى ذلك الآية ( 96 ) من سورة الأعراف: ( ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) .وكما في الآيتين ( 2 و 3 ) من سورة الطلاق: ( ومَنْ يتق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ) .وكما أشارت الآية ( 17 ) من سورة التغابن بخصوص أثر الإِنفاق في سعة الرزق: ( إِن تقرضوا اللّه قرضاً حسناً يضاعفه لكم ) .
ولعلنا لا حاجة لنا بالتذكير أن فقدان فرد أو جمع من الناس يضر بالمجتمع ،ولهذا فحفظ سلامة الأفراد وإِعانتهم يعود بالنفع على كل الناس ،( بغض النظر عن الجوانب الإِنسانية والروحية لذلك ) .
وخلاصة القول: إنّ اقتصاد المجتمع إِن بني على أُسس التقوى والصلاح والتعاون والإِنفاق فالنتيجة أن ذلك المجتمع سيكون قوياً مرفوع الرأس ،أمّا لو بني على الاستغلال والظلم والاعتداء وعدم الاهتمام بالآخرين ،فسيكون المجتمع متخلفاً اقتصادياً ،وتتلاشى فيه أواصر الحياة والاجتماعية .
ولذلك فقد أعطت الأحاديث والرّوايات أهمية استثنائية للسعي في طلب الرزق المصحوب بالتقوى ،وحتى روي عن الإِمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال: «لا تكسلوا في طلب معايشكم ،فإِن أباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها »{[2110]} .وروي عنه أيضاً: «الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل اللّه »{[2111]} .
وحتى أنّ الأمر قد وجّه إلى المسلمين بالتبكير في الخروج لطلب الرزق{[2112]} ،وذكر أنّ من جملة مَنْ لا يستجاب لهم الدعاء أُولئك الذين تركوا طلب الرزق على ما لهم من استطاعة ،انزووا في زوايا بيوتهم يدعون اللّه أن يرزقهم !
وهنا يتبادر إلى الذهن تساؤل عن الآيات القرآنية والرّوايات التي تؤكد على أنّ الرزق بيد اللّه ،وذم السعي فيه ،فكيف يتمّ تفسير ذلك ؟!
وللإجابة نذكر الملاحظتين التاليتين:
1دقة النظر والتحقق في المصادر الإِسلامية يوضح أنّ الآيات أو الرّوايات التي يبدو التضاد في ظاهر ألفاظهاسواء في هذا الموضوع أو غيرهإِنّما ينتج من النظرة البسيطة السطحية ؛لأنّ حقيقة تناولها لموضوع ما إِنّما يشمل جوانب متعددة من الموضوع ،فكل آية أو رواية إِنّما تنظر إلى بعد معين من أبعاد الموضوع ،فتوهم غير المتابع بوجود التضاد .
فحيث يسعى الناس بولع وحرص نحو الدنيا وزخرف الحياة المادية ،ويقومون بارتكاب كل منكر للوصول إلى ما يريدونه ،تأتي الآيات والرّوايات لتوضح لهم تفاهة الدنيا وعدم أهمية المال .وإِذا ما ترك الناس السعي في طلب الرزق بحجة الزهد ،تأتيهم الآيات والرّوايات لتبيّن لهم أهمية السعي وضرورته .فالقائد الناجح والمرشد الرشيد هو الذي يتمكن من منع انتشار حالتي الإِفراط والتفريط في مجتمعه .
فغاية الآيات والرّوايات التي تؤكّد على أنّ الرزق بيد اللّه هي غلق أبواب الحرص والشره وحبّ الدنيا والسعي بلا ضوابط شرعية ،وليس هدفها إِطفاء شعلة الحيوية والنشاط في الإعمال والاكتساب ،وصولا لحياة كريمة ومستقلة .وبهذا يتّضح تفسير الرّوايات التي تقول: إِنّ كثيراً من الأرزاق إِن لم تطلبوها تطلبكم .
2إِنّ كل شيء من الناحية العقائدية تنتهي نسبته إلى اللّه عزَّ وجلّ ،وكل موحد يعتقد أن منبع وأصل كل شيء منه سبحانه وتعالى ،ويردد ما تقوله الآية ( 26 ) من سورة آل عمران: ( بيدك الخير إِنّك على كل شيء قدير ) .وينبغي عدم الغفلة عن هذه الحقيقة: وهي أنّ كل شيء من سعي ونشاط وفكر وأخلاقية الإِنسان إِنّما هي في حقيقتها من اللّه عز وجل .ولو توقف لطف اللّه ( فرضاً ) عن الإِنسانولو للحظة واحدةلما كان ثمّة شيء اسمه الإِنسان .
ويقول الإِنسان الموحد حينما يركب وسيلة: «سبحان الذي سخر لنا هذا » .وعندما يحصل على نعمة ما ،يقول: «وما بنا من نعمة فمنك »{[2113]} .
ويقول عندما يخطو في سبيل الإِصلاحكما هو حال الأنبياء في طريق هدايتهم للناس: ( وما توفيقي إِلاّ باللّه عليه توكلت وإِليه أُنيب ){[2114]} .
وإلى جانب كل ما ذكر فالسعي والعمل الصحيح البعيد عن أي إِفراط أو تفريط ،هو أساس كسب الرزق ،وما يوصل إلى الإِنسان من رزق بغير سعي وعمل إِنّما هو ثانوي فرعي وليس بأساسي ،ولعل هذا الأمر هو الذي دفع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في كلماته القصار ،في تقديم ذكر الرزق الذي يطلبه الإِنسان على الرزق الذي يطلب الإِنسان ،حيث قال: «يا ابن آدم ،الرزق رزقان: رزق تطلبه ،ورزق يطلبك »{[2115]} .
2مواساة الآخرين:
أشارت الآيات إلى بخل كثير من الناس ممن لم يتّبعوا سلوك وهدي الأنبياء والأئمّة ( عليهم السلام ) ،وقد أكّدت الرّوايات في تفسيرها لهذه الآيات على المساواة والمواساة ،ومنها ما جاء في تفسير علي بن إِبراهيم في ذيل الآية: «لا يجوز للرجل أن يخص نفسه بشيء من المأكول دون عياله »{[2116]} .
وروي أيضاً عن أبي ذر أنّه سمع رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول عن العبيد: «إِنّما هم إِخوانكم ،فاكسوهم ممّا تكسون ،وأطعموهم ممّا تطعمون » ،فما رؤي عبده بعد ذلك إِلاّ ورداؤه رداءَه ،وإِزارُه إِزارَه من غير تفاوت{[2117]} .
والذي نستفيده من الرّوايات المذكورة والآية المبحوثة حين تقول: ( فهم فيه سواء ): أنّ الإِسلام يوصي بمراعاة المساواة كبرنامج أخلاقي بين أفراد العائلة الواحدة ،ومن يكون تحت التكفل قدر الإِمكان ،وأن لا يجعلوا لأنفسهم فضلا عليهم .