/م70
ويواصل القرآن الكريم استدلاله في الآية التالية من خلال بيان أنّ مسألة الرزق ليست بيد الإِنسان وإِنّما ..( واللّه فضل بعضكم على بعض في الرزق ) ،فأصحاب الثروة والطول غير مستعدين لإِعطاء عبيدهم منها ومشاركتهم فيها خوفاً أن يكونوا معهم على قدم المساواة: ( فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء ) .
واحتمل بعض المفسّرين أنّ الآية تشير إلى بعض أعمال المشركين الناتجة عن حماقتهم ،حينما كانوا يجعلون لآلهتهم من الأصنام سهماً من مواشيهم ومحاصيلهم الزراعية ،بالرغم من عدم وجود أيّ أثر لتلك الأحجار والأخشاب على حياتهم !بل كان الأُولى بهم لو التفتوا إلى خدمهم وعبيدهم ؛ليعطوهم شيئاً جزاء ما يقدمونه لهم من خدمات ليل نهار !...
هل التفاضل في الرّزق من العدالة ؟!...وهنا يواجهنا سؤال يطرح نفسه: هل أنّ إِيجاد التفاوت والاختلاف في الأرزاق بين الناس ،ينسجم مع عدالة اللّه عزَّ وجلّ ومساواته بين خلقه ،التي ينبغي أن تحكم نظام المجتمع البشري ؟لأجل الإِجابة ،ينبغي الالتفات إلى الملاحظتين التاليتين:
1إِنّ الاختلاف الموجود بين البشر في جانب الموارد المادية يرتبط بالتباين الناشئ بين الناس جراء اختلاف استعدادتهم وقابليتهم من واحد لآخر .والتفاوت في الاستعدادين الجسمي والروحي يستلزم الاختلاف في مقدار ونوعية الفعالية الاقتصادية للأفراد ،ممّا يؤدي إلى زيادة وارد بعض وقلّة وارد البعض الآخر .
ولا شك أنّ بعض الحوادث والاتفاقات لها دخل في إثراء بعض الناس ،الاّ أنّه لا يمكن أن نعوّل عليها عند البحث ؛لأنّها ليست أكثر من استثناء ،أمّا الضابط في أكثر الحالات فهو التفاوت الموجود في كمية وكيفية السعي .( ومن الطبيعي أن بحثنا يتناول المجتمع السليم والبعيد عن الظلم والاستغلال ،ولا نقصد به تلك المجتمعات المنحرفة التي تركت قوانين التكوين والنظام الإِنساني جانباً ،وانزلقت في طرق الظلم والاستغلال ) .
وقد يساورنا التعجب حينما نجد بعض الفاقدين لأي مؤهل أو استعداد يتمتعون برزق وافر وجيد ،ولكننا عندما نتجرّد عن الحكم من خلال الظواهر ونتوغل في أعماق مميزات ذلك البعض جسمياً ونفسياً وأخلاقياً ،نجد أنّهم يتمتعون بنقاط قوة أوصلتهم إلى ذلك .( ونكرر القول بأنّ بحثنا ضمن إِطار مجتمع سليم خال من الاستغلال ) .
وعلى أية حال ..فالتفاوت بين دخل الأفراد ينبع من التفاوت بالاستعدادات ،وهو من المواهب والنعم الإِلهية أيضاً ،وإِنْ أمكن أنْ يكون بعض ذلك اكتسابياً ،فالبعض الآخر غير اكتسابي قطعاً .فإِذِنْ وجود التفاوت في الأرزاق أمر غير قابل للإِنكار من الناحية الاقتصادية ،ويتمّ ذلك حتى داخل المجتمعات السليمة ..إِلاّ إِذا افترضنا وجود مجموعة أفراد كلهم في هيئة واحدة من حيث: الشكل ،اللون ،الاستعداد ،ولا يعتريهم أيّ اختلاف !وإِذا ما افترضنا حدوث ذلك فإِنّه بداية المشاكل والويلات !
2لو نظرنا إلى بدن إِنسان ما ،أو إلى هيكل شجرة أو باقة ورد ،فهل سنجد التساوي بين أجزاء كل منها ومن جميع الجهات ؟وهل أنّ قدرة ومقاومة واستعداد جذور الشجرة مساوية لقدرة ومقاومة واستعداد أوراق الوردة الظريفة ؟وهل أن عظم قدم الإِنسان لا يختلف عن شبكية عينه ؟وَهل من الصواب أن نعتبر كل ذلك شيئاً واحداً ؟!
ولو تركنا الشعارات الكاذبة والفارغة من أيِّ معنى ،وافترضنا تساوي الناس من جميع النواحي ،فنملأ الأرض بخمسة مليارات من الأفراد ذوي: الشكل الواحد ،الذوق الواحد ،الفكر الواحد ،بل والمتحدين في كل شيء كعلبة السجائر ..فهل نستطيع أن نضمن أنّ حياة هؤلاء ستكون جيدة ؟ستكون الإِجابة بالنفي قطعاً ،وسيحرق الجميع بنار التشابه المفرط والرتيب الكئيب ؛لأنّ الكل يتحرك في جهة واحدة ،والكل يريد شيئاً واحداً ،ويحبون غذاءاً واحداً ،ولا يرغبون إِلاّ بعمل واحد !وبديهياً ستكون حياة كهذه سريعة الانقراض ،ولو افترض لها الدوام ،فإِنّها ستكون متعبة ورتيبة وفاقدة لكل روح .وبعبارة أشمل: سوف لا يبعدها عن الموت بون شاسع .
وعلى هذا ،فحكمة وجود التفاوت في الاستعدادات المستتبعة لهذا التفاوت قد ألزمتها ضرورة حفظ النظام الاجتماعي ،وليكون التفاوت في الاستعدادات دافعاً لتربية وإِنماء الاستعدادات المختلفة للأفراد .ولا يمكن للشعارات الكاذبة أن تقف في وجه هذه الحقيقة التي يفرضها الواقع الموضوعي أبداً .ولا ينبغي أن نفهم من هذا الكلام أنّنا نريد منه إِيجاد مجتمع طبقي أو نظام استغلالي واستعماري ،لا .أبداً ..وإِنّما نقصد بالاختلافات التفاوت الطبيعي بين الأفراد ،( وليس المصطنع ) ،الذي يعاضد بعضه الآخر ويكمله .( وليس الذي يكون حجر عثرة في طريق تقدم الأفراد ،ويدعو إلى التجاوز والتعدي على الحقوق ) .
إِنّ الاختلاف الطبقي ،( والمقصود من الطبقات هنا: ذلك المفهوم الاصطلاحي الذي يعني وجود طبقة مستغِلة وأُخرى مستغَلة ) ،لا ينسجم مع نظام الخليقة أبداً ،ولكنّ الموافق لنظام الخليقة هو ذلك التفاوت في الاستعدادات ،والسعي ،وبذل الجهد ،والفرق بين الأمرين كالفرق بين السماء والأرضفتأمل .وبعبارة أُخرى ،إِن الاختلاف في الاستعدادات ينبغي أن يوظف لخدمة مسيرة البناء ،كما في اختلاف طبيعة أعضاء بدن الإِنسان أو أجزاء الوردة ،فمع تفاوتها ،إِلاّ أنّها ليست متزاحمة ،بل إنّ البعض يعاضد البعض الآخر ،وصولا للعمل التام على أكمل وجه .
وخلاصة القول: ينبغي أن لا يكون وجود التفاوت والاختلاف في الاستعدادات وفي الدخل اليومي للأفراد دافعاً لسوء الاستفادة ،وذلك بتشكيل مجتمع طبقي{[2107]} .
ولهذا يقول القرآن الكريم في ذيل الآية مورد البحث: ( أفبنعمة اللّه يجحدون ) .وذلك إِشارة إلى أن هذه الاختلافات في حالتها الطبيعية ،( وليس الظالمة المصطنعة ) ،إِنّما هي من النعم الإِلهية التي أوجدها لحفظ النظام الاجتماعي البشري .
وتبدأ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث بلفظ الجلالة «اللّه » ،كما كان في الآيتين السابقتين ،ولتتحدث عن النعم الإِلهية في إِيجاد القوى البشرية ،ولتتحدث عن الأرزاق الطيبة أيضاً تكميلا للحلقات الثلاثة من النعم المذكورة في آخر ثلاث آيات ،حيث استهلت البحث بنظام الحياة والموت ،ثمّ التفاوت في الأرزاق والاستعدادات ،الكاشف لنظام ( تنوع الحياة ) ،لتنتهي بالآية مورد البحث ،حيث النظر إلى نظام تكثير النسل البشري و ..الأرزاق الطيبة .