/م70
{والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون} .
شاءت حكمة الله تعالى ،أن يجعل بعض الناس واسع الأرزاق ،وبعضهم قليل الرزق ،وبعضهم بين بين ؛لحكمة يعلمها ؛ حتى يستفيد الغني من عمل الفقير ،ويستفيد الفقير من مكافأة الغني .
قال تعالى:{ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير}( الشورى:27 ) .
ومن الأمثال المشهورة: إذا كنت أمير ،وأنا أمير ،من يسوق الحمير .
إن هذا التفاوت بين الناس في المواهب والأرزاق ،سنة إلهية ،حيث قال تعالى:{الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ...} ( الحج:75 ) .
وقال سبحانه:{إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم}( البقرة:247 ) .
ويذكر بعض المفسرون:أن نعم الله متعددة ،فالعلم ملك ،والخلق ملك ،والحكمة ملك ،والمال ملك ،وسائر العطايا والمواهب ،يعطي منها الوهاب بغير حساب .
قال تعالى:{قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء}( آل عمران:26 ) .
{والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ...} . أي:من الناس الأغنياء ومنهم الفقراء ،ومنهم العلماء ومنهم الجهلاء ،ومنهم المملوك ومنهم المالك ،ولم يجعل ذلك بحسن الحيلة وفضل العقل فحسب ،فكثيرا ما ترى العبقري النابه ،لا يحصل إلا على الكفاف من الرزق بعد الجهد الجهيد ،بينما ترى الأحمق يتقلب في النعيم ،كأنما يغترف الرزق من خليج البحر .
قال سفيان بن عيينة:
كم من قويٍ قويٌ من تقلبه *** مهذب الرأي عنه الرزق منحرف
ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط *** كأنه من خليج البحر يغترف
ويقول آخر:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه *** وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ***وصيّر العالم النحرير زنديقا
لكن لله حكمة خفية في كل أعماله ،فقد يكون كثرة الرزق ابتلاء واختبارا ،وقد يكون الفقر اختبارا وابتلاء ،وقد تكون للإنسان مواهب قوية ،لكن موهبته في تثمير المال محدودة ،وقد يكون الإنسان ضعيف الحيلة في أمور كثيرة ،لكن موهبته في استثمار المال عالية .
وفي الحديث القدسي:( إن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى ولو أفقرته ؛لساء حاله ،وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر ولو أغنيته ؛لساء حاله ) .
{فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء ...} .أي:إن الأغنياء والأثرياء ،والمالكين للخدم والعبيد ،لا يوزعون ثروتهم على العبيد والخدم ،حتى يتساووا جميعا فيما يملكون ،بل يحافظون على أموالهم وأملاكهم ،ولا يعطون أتباعهم وخدمهم منها ،وإن أعطوهم أعطوهم النذر اليسير من المال ،وأمسكوا المال في أيديهم ،إذا كان هذا شأن العباد مع بعضهم ،فكيف يشركون مع الله معبودات أخرى من مخلوقاته ،ويجعلونهم شركاء لله في الألوهية .
قال العوفي:عن ابن عباس في هذه الآية يقول:
لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم ،فكيف يشركون معي عبيدي في سلطاني ..
جاء في تفسير ابن كثير:
يقول تعالى منكرا عليهم: أنتم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم ،فكيف يرضى هو تعالى ،بمساواة عبيد له في الألوهية والتعظيم ؟!.
كما قال تعالى في آية أخرى:{ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ...}( الروم:28 ) .
ثم ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله:
{أفبنعمة الله يجحدون} . أي:أينعم الله عليهم بالمال والجاه والخلق والرزق ،ثم ينسبون هذه العطايا إلى غيره ،فيجحدون نعمة الخالق الرازق الذي بيده الخلق والأمر ،والهمزة هنا للاستفهام الإنكاري ،والفاء معطوفة على مقدر ،أي:أيشركون به سبحانه فيجحدون نعمه وينكرونها ويغمطونها حقها ،مع أنه تعالى هو الذي منحهم هذه النعم ،وتفضل عليهم بالأرزاق .