التفضيل في الرزق
{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ} ،فلكل واحدٍ منكم قدرته الذاتية التي قد تختلف عن قدرة غيره .وربما تكون فرص الإنتاج لدى شخص ،مختلفة عن الفرص الموجودة لدى شخص آخر .وهكذا تختلف ساحة العمل ،ومراحله ،وعلاقاته ،وأوضاعه ،ما قد يُسْهِم في حصول بعض الناس على رزقٍ أكثر سعةً من بعضهم الآخر ،وبذلك يتفاضل الناس في الرزق ،فيصبح بعضهم غنياً وبعضهم الآخر فقيراً ،تبعاً لحركة الأسباب والمسببات في ذلك .وبذلك لا تكون المسألة خارجةً عن عنصر الاختيار لدى الإنسان بشكلٍ مطلقٍ ،بل قد يكون ذلك اختيارياً في بعض حالاته ،كمن يملك إمكانية العمل فلا يعمل ،أو كمن تتوفر له الظروف الملائمة للإنتاج فلا ينتهزها ،وقد لا يكون اختيارياً ،كمن وضعته الظروف في دائرةٍ ضيقةٍ لا يستطيع الخروج منها ،أو كمن يتحرك في دائرة واسعة تسمح له بالامتداد ،أو تحقق له الغنى بطريقة حتمية .
وهكذا تكون مسألة الرزق خاضعةً للنظام الكوني الذي أراد الله للإنسان أن يتحرك فيه ،على أساس الحكمة .وتلك هي الحقيقة الكونية التي أقام الله الحياة عليها ،حيث تحكم قاعدة التنوّع والتفاضل في كل دوائر الوجود الحية والجامدة .ولكنه لم يترك للقاعدة التكوينية أن تحكم الإنسان بشكل قدري يحول الفقر والغنى إلى معيار تتحدد على أساسه قيمة الذات ،بل وضع نظاماً تشريعياً يخلق التوازن بينهما على خط العدالة ،فجعل للفقير حقاً في مال الغنيّ لا هدر لكرامته في أخذه ،كما جعل العطاء فريضةً على الغني لا امتياز له فيه .
ولكن هذا الحديث كله ليس ما تريد الآية أن تثيره وتفيض فيه ،بل هو مقدّمة لحديث آخر يتعلق بحركة العقيدة في وعي الإنسان لقضية التوحيد لله ،{فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} ،أي: فإذا كان الله قد فضَّل بعض الناس على بعض في الرزق ،فإن الذين فضُلوا لا يقبلون بالتنازل عما يملكونه من امتيازاتٍ ،لمن ملكوه من عبيد وإماء ليكونوا سواءً في ذلك ،فكيف يمكن أن تساووا الله الذي يملك القدرة كلها بهؤلاء الشركاء الذين تدعونهم من دون الله الذي لا يملكون شيئاً معه ؟!هذا أحد الوجوه التي ذكرت في تفسير هذه الفقرة من الآية .
وقد ذكر هناك وجه آخركما جاء في الكشاف: «إن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعاً ،فهم في رزقي سواء ،فلا تحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق ،فإنما ذلك رزقي أجريه إليهم على أيديهم » .
وهناك وجه ثالثذكره الزمخشريقال: «أي: جعلكم متفاوتين في الرزق ،فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم ،فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تتساووا في الملبس والمطعم » .
ولكن مدلول منطوق الآية ليس ظاهراً في ذلك كله ؛لأن كل ما جاء فيه ،هو أن الذين فضلهم الله على الآخرين في الرزق ،ليسوا مستعدين للتنازل عما فضلهم الله به إلى هؤلاء الذين فضلهم الله عليهم ،وجعلهم مملوكين لهم ،ليتساووا معهم في الرزق ،أو أن المسألة تمثل حالةً طبيعية في استمرار هذا التفضيل في ما يعيشه هؤلاء من شعورٍ وامتيازٍ ،ما يحملهم على المحافظة على ما هم فيه ،بعدم التنازل عنه للطبقات الأخرى .وبذلك تكون الآية واردةً في الحديث عن تأكيد هذه النعمة للإيحاء بضرورة الشعور بقيمتها في حياة الإنسان ؛لأن الغفلة عنها ،نظرياً أو عملياً ،يعتبر جحوداً للنعمة ،لا يريد الله لعباده أن يعيشوه في سلوكهم العقيدي العام ،{أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ،في ما يمثله النسيان لهذه النعمة من جحودٍ على مستوى الحالة الذهنية ،أو لما يمثله الشرك بالله وعبادة غيره من جحود واقعيٍ عملي ،بعد الانتباه بأن الله هو وحده المنعم ،في ما يفرضه شكر النعمة من الإخلاص لله بتوحيده في العقيدة أو في العبادة .