هذه حقائق ونتائجها في قلوب الكافرين ، وهي عند الله أوسع وأعظم هم يضيقون مدلول الآيات التي تحت أيديهم ، والله يريد أن يوسعوا عقولهم وتفكيرهم ، ولا يقترون في مداركهم ، وإن كان من أوصاف الإنسان أنه قتور ولذا قال تعالى:
{ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ( 100 )} .
كان الكلام من الله تعالى ؛ لأنه ذكر لحقائق الوجود ، ولطبائع الأشياء والخلق والتكوين فلما اتجه سبحانه إلى بيان الطبائع الإنسانية أمر من وجب عليه التبليغ أن يبلغهم طبائعهم ، فقال عز من قائل:{ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي . . .} ، قل لهم يا رسولي إليهم لو كنتم تملكون خزائن رحمة الله إذا لأمسكتم ، أي إنكم تضيقون على أنفسكم دانما ولا توسعون في مدارككم وتفكيركم ، فلو أنتم بهذا التفكير الضيق تملكون أو تسيطرون على خزائن رحمة الله على أصحابها كما ضيقتم عقولكم ، ومدارككم وتفكيركم ، وخزائن رحمة الله هي الرزق والصحة ، والقوة ، وكل ما ينعم الله به تعالى على عباده ، وقوله:{ إذا لأمسكتم خشية الإنفاق} ، أي إذا كان ذلك لأمسكتم ، و ( اللام ) هي الواقعة في جواب ( إذا ) ، أي الافتقار بمعنى الإملاق ، كقوله تعالى:{ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق . . .( 31 )} ، أي إنكم تبلون حتى في مال غيركم ، وتمنعون أصحاب الحقوق من حقوقهم ، ثم قال تعالى:{ وكان الإنسان قتورا} ، أي بخيلا ، لأنه يطلب دائما المعاوضة ، وهو بالخير ضنين ، وإنه يشعر بالاحتياج دائما ؛ لأنه بالنسبة للدنيا يخشى النفاد ، ويحرص على أن يبقى لنفسه في كل الأزمان ، وهو لا يحض على طعام المسكين خشية الفقر ، وهذا في طبع الإنسان ، ولكنه لا يمنع أن المؤمنين منهم الجواد السخي الذي يعطى المال على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ، ولذا قال تعالى:{ إن الإنسان خلق هلوعا ( 19 ) إذا مسه الشر جزوعا ( 20 ) وإذا مسه الخير منوعا ( 21 ) إلا المصلين ( 22 )} [ المعارج] ، وإن الإنسان إذا لم يهذبه دين الحق ، ولا مجتمع فاضل يبدو فيه أمران:حرص شديد ليحفظ لنفسه في عزمه نفقته في القابل ، وخوف الفقر ، حتى تتحقق الحكمة:"الناس من خوف الفقر في فقر"فهم فقراء في ذات أنفسهم إذا خافوا الفقر ، وإن هذا النص الكريم يدل على أمور ثلاثة:
الأمر الأول:أن خزائن رحمة الله تعالى لا تنفد تشمل البر والفاجر ، وتعم الغني والفقير ، والقادر والعاجز .
الأمر الثاني:أن العبد هو الذي يقتر ، ويحس بالفقر دائما إلا أن يكون مؤمنا يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة .
الأمر الثالث:أنه على الإنسان أن يهذب غرائزه ، فإذا كان قتورا يجب أن يعود السخاء والإيثار .
ذكرنا أن الآيات من قوله:{ أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض . . .} تدل على قدرة الله على البعث ، وإعادة الخلق كما بدأه ، وتدل على طبيعة الإنسان وخلقه ، وأنه حريص على هذه الحياة الدنيا ، ومن حرصه عليها أنه قتور ضنين ، ومن ضنه أنه لا يؤمن باليوم الآخر ؛ لأنه لا يؤمن إلا بما في قبضة يده ، ويحرص عليه .
وذكر أن الآيات من بعد هذا رد بالواقع الصادقة على الذين يقولون لو جاءتهم آية حسية لآمنوا ، فبين الله تعالى لهم أن من سبقوكم جاءتهم آيات حسية كثيرة .