وإن هذه النفوس التي تنفر من الحق هذا النفور نفوس مريضة ، عرتها آفة حولتها عن الحق وصرفت فطرتها وطمست فؤادها فقال تعالى:
{ نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( 47 )} .
يتكلم الله تعالى معبرا عن ذاته العلية فيذكر أنه يعلم علما ليس فوقه علم بالحال التي يكونون عليها ومتلبسين بها ، إنهم حين يستمعون إليك تكون قلوبهم مصروفة عنك ، وعما تقرأ وذلك باستهزاء باطل ، وهم في نجوى مع إخوانهم الكفار فيودعون نفوسهم المنحرفة ، وعقولهم المستهواة بالباطل التي تريهم الباطل حقا والحق باطلا ، إذ يقول أولئك الظالمون{ إن تتبعون إلا رجلا} هو مريض في ذاته ،{ مسحورا} يحتاج لأن يطيب من الخبال الذي أوجد السحر في نفسه .
هذه الخلاصة الواضحة المنيرة لمعنى الآية ، وكلام الله تعالى أسمى وأعلى وهو ذروة البيان وأعلاه ، ولنعرج باستقاء هذه المعاني من ألفاظها التي هي نور على نور .
{ نحن أعلم} أفعل التفضيل ليس على بابه ؛ لأنه لا مفاضلة بين علم الله تعالى وعلم أحد من خلقه ، وإنما المراد به أقصى العلم الذي ليس فوقه علم ،{ بما يستمعون به} "ما"هنا دالة على الحال ، ( به ) الضمير عائد على لفظ "ما"، ويكون المعنى أعلم بالحال التي تكونون متلبسين بها عند سماعهم هذا القرآن الكريم ، وقد صور الله سبحانه وتعالى هذه الحال ، إذ يستمعون إليك وهم في نجوى يتذاكرون فيها القول الصارف عن الحق ، إذ يقول الظالمون في هذه النجوى ،{ إن تتبعون إلا رجلا مسحورا} والسرية مدرجة الفتنة فهم يسرون إليهم في النجوى ظالمين للحق وللنبي لا تتبعوه ،{ إن تتبعون إلا رجلا مسحورا} والمسحور هو الذي أفسد تفكيره السحر ، وجعله في خبال يحتاج إلى طب الأطباء ، إن النجوى دائما تكون أفعل في نفس الذين لا يريدون اتباع الحق ، ألم تر أنك إذا أردت أن تخدع إنسانا تخفت في صوتك ، وتتسار معه فيؤثر فيه ، هؤلاء الذين ينفرون من الحق نفورا يتولون على أدبارهم لا يكونون في حال طبيعية بل يكونون قد استهوا بالباطل استهواء ، فعندما يذكر الله وحده في القرآن يولون الأدبار نفورا .