يقول تعالى ذكره:نحن أعلم يا محمد بما يستمع به هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من مشركي قومك، إذ يستمعون إليك وأنت تقرأ كتاب الله ( وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ). وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول:النجوى:فعلهم، فجعلهم هم النجوى، كما يقول:هم قوم رضا، وإنما رضا:فعلهم. وقوله ( إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا ) يقول:حين يقول المشركون بالله ما تتبعون إلا رجلا مسحورا. وعنى فيما ذُكِر بالنجوى:الذين تشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار النَّدوة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال:ثنا أبو عاصم، قال:ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال:ثنا الحسن، قال:ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) قال:هي مثل قيل الوليد بن المُغيرة ومن معه في دار الندوة.
حدثنا القاسم، قال:ثنا الحسين، قال:ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
حدثنا بشر، قال:ثنا يزيد، قال:ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ ).... الآية ، ونجواهم أن زعموا أنه مجنون، وأنه ساحر، وقالواأَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ.
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يذهب بقوله ( إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا ) إلى معنى:ما تتبعون إلا رجلا له سَحْر:أي له رئة، والعرب تسمي الرئة سَحْرا، والمسحَّر من قولهم للرجل إذا جبن:قد انتفخ سَحْره، وكذلك يقال لكل ما أكَلَ أو شرب من آدميّ وغيره:مَسحور ومُسَحَّر، كما قال لبيد:
فــإنْ تَسْــأَلِينَا فِيـم نَحْـنُ فإنَّنَـا
عَصَـافِيرُ مِـنْ هَـذَا الأنـامِ المُسَحَّر (4)
وقال آخرون:
ونُسحَر بالطعام وبالشراب (5)
أي نغذّى بهما، فكأن معناه عنده كان:إن تتبعون إلا رجلا له رئة، يأكل الطعام، ويشرب الشراب، لا مَلَكا لا حاجة به إلى الطعام والشراب، والذي قال من ذلك غير بعيد من الصواب.
-----------------------
الهوامش:
(4) البيت في ( ديوان لبيد ، رواية الطوسي ، طبع فينا سنة 1880 ص 81 ) وفي شرحه:عصافير:صغار ضعاف . أي نحن أولاد قوم قد ذهبوا ومسحر معلل بالطعام والشراب . وقوله:"إنما أنت من المسحرين ":من هذا . واستشهد به المؤلف على هذا قال:والمسحر:من قولهم للرجل إذا جبن:قد انتفخ سحره . وكذلك يقال لكل ما أكل وشرب من آدمي وغيره:مسحور ومسحر كما قال لبيد:"فإن تسألينا ... "البيت . و (في اللسان:سحر ):وقول لبيد:"فإن تسألينا ... إلخ البيت ، يكون على الوجهين ، وقوله تعالى:"إنما أنت من المسحرين "يكون من التغذية والخديعة .
(5) هذا عجز بيت من قول امرئ القيس بن حجر الكندي:
أرَانــا مُــوضِعِينَ لأَمْــرِ غَيْـبٍ
ونُسْـــحَرُ بالطَّعــامِ وبالشَّــرَابِ
عَصَـــــافِيرٌ وذِبَّــــانٌ ودُودٌ
وأجْــرأ مِــنْ مُجَلِّحَــةِ الّذئـابِ
قال صاحب اللسان بعد أن أورد البيتين:( سحر ) أي نغذى أو نخدع . قال ابن امرئ بري:وقوله:"موضعين "معناه:مسرعين . وقوله "لأمر غيب ":يريد الموت ، وأنه قد غيب عنا وقته ، ونحن نلهى عنه بالطعام والشراب. والسحر:الخديعة. وفي "مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 79 في شرح البيت الأول من البيتين:موضعين:مسرعين . لأمر غيب:يريد الموت أو المستقبل المجهول . ويروى:لحتم غيب . ونسحر:نلهى ، أو نغذى . يقول:أرانا في هذه الدنيا مسرعين للموت الذي غيب عنا وقته ، أو لمستقبل مجهول ، لا ندري من أمره شيئا ، ونحن نعلل عنه بالطعام وبالشراب . يريد:كيف يستلذ الطعام والشراب من هو جاد إلى شرب كأس المنية . وفي شرح البيت الثاني:العصافير:ضعاف الطير ؛ والمجلح:الجريء ، والأنثى مجلحة . يقول:نحن أشبه بالعصافير والذباب والدود في ضعفنا ، ولكننا أجرأ على الشر ، وارتكاب الآثام من الذئاب الضارية .