وقد بين نية الشر الذي دفع إليه الحسد ، وسبب ذلك الحسد ، قال:
{ أرأيتك هذا الذي كرمت علي} الكاف لتأكيد الخطاب ، ويقول بعض اللغويين ، لا محل لها من الإعراب ، وأرى أنه لا مانع من أن تكون في موضع المفعول لرأى ، والهمزة للاستفهام ، ومعنى الكلام أخبرني أهذا الذي كرمت على ، وفي هذا معنى التصغير لآدم ، والاستكبار عليه ، كأنه يقول ما هذا الذي كرمت علي ، أي كرمته مفضلا له علي ، وأنه لا يستحق التكريم دوني ، ويقول إبليس:أنا الجدير بالتكريم ، كما توهم أن كونه من نار يجعله أكرم ممن هون من طين ، وذلك من فرط الغرور ؛ لأن الذي أمر بذلك الأمر الجازم هو الذي جعلك من نار وجعله من طين ، وذلك من تغفيله ، واستعلائه بالباطل ، وكان قياسه هذا باطلا ، واستدل نفاة القياس على بطلانه بقياس إبليس .
ثم يقول متوعدا آدم وذريته ، ومتحديا ربه عن جهالة:{ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا} اللام للقسم ، ولأحتكن جواب القسم ، ودخلته نون التوكيد الثقيلة ، وهو يؤكد ذلك ، كقوله في آية أخرى:{. . .ولأغوينهم أجمعين ( 39 ) إلا عبادك منهم المخلصين ( 40 )} [ الحجر] ، والاحتناك:الاستئصال ، من احتنك الجراد الزرع إذا لم يبق منه شيئا ، وكقولك:الرجل احتنك شاتين أي أكلهما ، ويصح أن يكون من احتنكت الفرس وضعت في فمها الرسن أو الحبل ، يجرها منه ، والمعنيان يصلحان ، إذ يكون المعنى استأصلهم بالإغراء والإغواء حتى يجرهم كما يجر الرجل دابته ، ويجعلهم له تبعا ، وقد استثنى من ذريته فقال:{ إلا قليلا} ، أي إلا عددا قليلا ، وهو كقوله:{ إلا عبادك منهم المخلصين ( 40 )} [ الحجر] ، وفي هذه الآية قال:إلا قليلا ، وباجتماع يكون المخلصون من عباد الله عددا قليلا .
وكيف علم ذلك ؟ ، نقول:إنه اعتزم أن يفعل ذلك ، ويريد أن يكون أتباعه عددا كبيرا ، وأطعمه في ذلك أن الملائكة عندما قال الله تعالى لهم:{ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك . . .( 30 )} [ البقرة] ، ولأنه أدرك أنه يؤتى من قبل شهوته وهواه وأنه أوتى غرة بحيث يكون قابلا للانخداع لا يستمسك ، كما قال الله تعالى في آدم:{. . .ولم نجد له عزما ( 115 )} [ طه] .