الإفك حول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
كان هذا القصص الحق الخاص بالإفك على أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما ، وقد روى أن اللعان نزل في فتنة هذا الإفك الذي حيك حولها رضي الله عنها ، ومهما تكن قيمة هذه الرواية فمن المؤكد أنه طبق على الذين رددوه ، فقد قيل فيما روى أنه طبق على مسطح بن أثال ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش أخت زينب زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت لها منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تناصي منزلة عائشة رضي الله عنها{[1555]} .
الإفك هو الكذب ، كأن الكاذب صرف عن الحق إلى الباطل ؛ لأن الإفك أصل معناه الصرف . كأن الأفاك يرى الحق واضحا بينا ، فيعدل عنه إلى قول الباطل وينصرف إليه ، وكذلك الأمر بالنسبة للإفك على عائشة ، بين أيديهم أمارات الحق واضحة بينه فينصرفون عنها إلى الباطل الذي لا ريب فيه .
والعصبة:الطائفة المجتمعة التي يشد بعضها بعضا ، وكأنهم جماعة يتآمرون فيما بينهم على قول الباطل وترويجه وإشاعته ، وقوله تعالى:{ منكم} ، إشارة إلى أنهم يعيشون بينكم ، وأنهم يتغلغلون في أوساطكم ، وحسبك أن مسطحا هذا له بالصديق قرابة ، وكان أبو بكررضي الله عنهيعطيه من فضل ماله ، كما تبين ذلك عند الكلام في معاني قوله تعالى:{ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ . . . ( 22 )} [ النور] .
وقال تعالى:{ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} نفى الله تعالى أن يكون شرا ، ونهانا عن أن نظن أنه شر ، وقرر مؤكدا أنه خير لكم ، وهنا نسأل ما وجه الخيرية لكم ، وقرر الله تعالى أنه خير لكم ، أي أنه ليس خيرا في ذاته ، ولا يمكن أن يكون خيرا في ذاته ، ونهى عن أن يظن المؤمنون أنه شر لهم ، فالشرية والخيرية بالنسبة لجماعة المؤمنين في عاقبة هذا الإثم ونتائجه ، وإن نظرنا هذه النظرة ، نجد أن المؤمنين أدركوا أولا:أن فيهم خبثا يحترس منه ، ومعرفة الداء الذي يكون في الجسم لعلاجه خير من إخفائه أو الجهل به ، وثانيا:لأن هذا الداء لحق النبي صلى الله عليه وسلم ، فعالجه بدواء من الله ، إذ ناله من الألم ما ينال البشر في هذه الحال ، ولكنه صبر على الأذى ، وعالج الأمر بالحكمة والروية ، لا بالغضب والتسرع ، نعم إن الاتهام سبق إلى نفسه ، ولكن لم يسبق بالعمل استجابة للغضب من غير تثبيت واستيقان . وثالثا:أنه لا يصح الإفراط في الغضب ، حتى تنحل قوى النفس ، ورابعا:أنه لا يصح أن تتخذ مجالس السمر للحديث في الأعراض ، واتهام الأبرياء والبريئات الطاهرات من النساء ، وخامسا:أنه لا يصح أن يتلقى العلم في الأعراض عن الأسماع ، وتردد ما سمعت الآذان الأفواه ، بل إن علم ذلك يكون بالمعاينة ، وأن الإفشاء شر في ذاته والستر أولى .
{ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
قسم الله تعالى الذين تحدثوا في هذا الإفك إلى قسمينأولهما:من ردد القول ترديدا ، ولم يكن هو مخترع القول بل أشاعه . والقسم الثاني:وهو منهم الذي اخترع القول ونشره ، ولهذا عبر سبحانه وتعالى عنه بأنه ( تولى كبره ) الكبر الإثم الكبير الذي أنشأه وأشاعه واقتدى به ، ولا شك أن ذلك إثمه أكبر ، ولذلك ذكر أن له عذابا عظيما ، لا يحد حده إلا أن يراه ويذوقه ، فإن عليه وزره ، ووزر من تبعه ، والآخرون عليهم إثم أنهم نجسوا ألسنتهم بترداده ، ولاكته ألسنتهم واستمرأوه في مجالسهم غير مقدرين مقام القول فيهارضي الله عنهاومقام زوجها صلى الله عليه وسلم ، ولا معترفين مصدره ، بل صرفوا أنفسهم من الحق إلى الباطل .
وهنا إشارتان بيانيتان:
الأولى:في قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ} وهذه إشارة إلى أنه لم يكن له أصل واقع ، ولكن جاءوا مروجين له مرددين سامرين في مجالسهم ، يتلهون به .
الثانية:{ منكم} إشارة إلى أنهم متغلغلون في أوساطكم يبثون فيها الانحراف الفكري والنفسي واللساني ، يلهونكم عن جد الأعمال إلى لغو القول الآثم ، وإشاعة الفساد والتقاطع بينكم ، وتسهيل الفسق ، لأن ترداد القول ونسبة الفعل الفاحش إلى زوج محمد صلى الله عليه وسلم يروج الفسق بين الفتيات اللاتي ليس لهن مكانة زوج محمد صلى الله عليه وسلم وابنة الصديق .
وقد ذكرت أم المؤمنين عائشة فيما روى عنها أن الذي تولى كبر هذا الإثم وأشاعه هو رأس النفاق وكبير المنافقين ، عبد الله بن أبي سلول .
ولنقص طرفا من قصة الإفك الأثيم بيانا لموضوع النص الكريم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يختار من بين نسائه من يصحبه في غزواته ، وفي غزوة بني المصطلق اختار أم المؤمنين عائشة ، وبعد أن انتهت الغزوة بانتصار المؤمنين عاد الجيش ، وقد كانت عائشة تركت مركبها لحاجة في الصحراء ، ورحل القوم في هذه الأثناء ، وحملوا هودجها إلى البعير يحسبونها فيه ، وشدوه ، وقد انطلق الركب به ، فلما عادت من حاجتها ، لم تجد أحدا فتلحفت بجلبابها ، واضطجعت مسلمة أمرها إلى ربها الذي لا ينام ، فمر صفوان بن المعطل السلمي ، وكان قد تخلف عن العسكر لبعض شأنه فرأى سواد عائشة وقال:إن لله وإنا إليه راجعون ، ظعينة رسول الله ، وقرب منها بعيره فقال اركبي فركبت ، ولم يصلوا إلى الناس ، وما بحثوا عنها ، حتى أصبح الصباح ، وعلموا تخلفها ثم حضورها ، على جمل مع الصالح الذي سار وراءه ، وكان حصورا ، لا أرب له في النساء ، وجدها رأس النفاق مقالا يقوله ، فنشر الإثم رأس النفاق وقال مقالته ، وقبلها من المهاجرين والأنصار من لا يمحصون الأقوال ، ويتعرفون نتائجها وغاياتها ، ويرجفون ويرمونه جزافا .
وأثر القول في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه بشر ، وقد مرضت فرأت من الرسول ما لم تعهده ، وانتقلت إلى بيت أبيها لتمرضها أمها ، وعرفت ما شاع من قالة السوء ، فبكت ، وانضاف إلى وجع جسمها وجع نفسها .
عندئذ أعلن الرسول بين المؤمنين ما في نفسه ، واستشار صحابته في خاصة أمره ، فبادر بعض كبار الصحابة بالبراءة ، بما ألهمه به إيمانه ، وعلى رأس هؤلاء عمر ، ورأى علي بن أبي طالب قاضي الصحابة أن يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر والنساء غيرها كثيرات ، ويحقق ، فيسأل جاريتها عن أحوالها ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم جاريتها بريرة ، فقالت:والله ما أعلم إلا خيرا ، وما كنت أعيب على عائشة إلا أني كنت أعجن عجيني ، فآمرها أن تحفظه ، فتنام عنه ، فتأتي الشاة فتأكله ، وإذا كانت الواقعة أنها كانت نائمة وقد عاد الذي ساق بعيرها ، فقد ثبت أن عذرها كان من جنس ما اعتادت مع ملاحظة أنها كانت صبية لم تبلغ الخامسة عشر من عمرها .
اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنها فرية مفتراة ، وهم بأن يعيدها إلى بيته الكريم ، ولكنها أبت أن تعود إلا إذا برأها الله ، وما كانت تطمع في أن ينزل قرآن يتلى ببراءتها ، ولكن الله تعالى أكرم نبيه بقرآن يتلى ببراءتها ، والقرآن الذي نزل ببراءتها قوله تعالى:{ الطيبات للطيبين . . . ( 26 )} [ النور] الآيات{[1556]} .