هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله تعالى لها ولنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، فأنزل [ الله عز وجل] براءتها صيانة لعرض الرسول ، عليه أفضل الصلاة والسلام فقال:( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة ) أي:جماعة منكم ، يعني:ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة ، فكان المقدم في هذه اللعنة عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ، فإنه كان يجمعه ويستوشيه ، حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين ، فتكلموا به ، وجوزه آخرون منهم ، وبقي الأمر كذلك قريبا من شهر ، حتى نزل القرآن ، وسياق ذلك في الأحاديث الصحيحة .
وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري قال:أخبرني سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله ، وكلهم قد حدثني بطائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصا ، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني ، وبعض حديثهم يصدق بعضا:ذكروا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ، قالت عائشة:فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج فيها سهمي ، وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعدما أنزل الحجاب ، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه مسيرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري ، فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه . وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب - وهم يحسبون أني فيه - قالت:وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلهن ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام . فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي . فبينا أنا جالسة في منزلي ، غلبتني عيني فنمت - وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش - فادلج فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني . وقد كان يراني قبل أن يضرب علي الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، والله ما كلمني كلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حتى أناخ راحلته ، فوطئ على يدها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة . فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول . فقدمت المدينة فاشتكيت حين قدمنا شهرا ، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ، ثم يقول:"كيف تيكم؟ "فذلك يريبني ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع - وهو متبرزنا - ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها في بيوتنا . فانطلقت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف ، وأمها ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكرالصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب - فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت:"تعس مسطح ". فقلت لها:بئسما قلت ، تسبين رجلا [ قد] شهد بدرا؟ قالت:أي هنتاه ، ألم تسمعي ما قال؟ قلت:وماذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا إلى مرضي . فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ، ثم قال:"كيف تيكم؟ "قلت:أتأذن لي أن آتي أبوي؟ - قالت:وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما - فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجئت أبوي فقلت لأمي:يا أمتاه ، ما يتحدث الناس؟ فقالت:أي بنية هوني عليك ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة ، عند رجل يحبها ، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . قالت:فقلت:سبحان الله أوقد تحدث الناس بهذا؟ قالت:فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت ، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي ، يستشيرهما في فراق أهله ، قالت:فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه له من الود ، فقال:يا رسول الله ، هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا . وأما علي بن أبي طالب فقال:لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر . قالت:فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ، فقال:"أي بريرة ، هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ "فقالت له بريرة:والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها ، أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول . قالت:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر:"يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ". فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال:أنا أعذرك منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج ، أمرتنا ففعلنا أمرك . قالت:فقام سعد بن عبادة - وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ، ولكن احتملته الحمية - فقال لسعد بن معاذ:لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله . فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال لسعد بن عبادة:كذبت! لعمر الله لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين . فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم [ قائم على المنبر . فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم] يخفضهم حتى سكتوا وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت:وبكيت يومي ذلك ، لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي . قالت:فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي ، استأذنت علي امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي ، فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس - قالت:ولم يجلس عندي منذ قيل [ لي] ما قيل ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء - قالت:فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ، ثم قال:أما بعد يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله ثم توبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب ، تاب الله عليه . قالت:فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي:أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال:والله ما أدري ما أقول للرسول . فقلت لأمي:أجيبي عني رسول الله . فقالت:والله ما أدري ما أقول لرسول الله . قالت:فقلت - وأنا جارية حديثة السن ، لا أحفظ كثيرا من القرآن -:[ إني] والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا ، حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، ولئن قلت لكم إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدقوني [ بذلك . ولئن اعترفت لكم بأمر والله عز وجل يعلم أني بريئة تصدقوني] ، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف:( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) [ يوسف:18] . قالت:ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، قالت:وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى . ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها . قالت:فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه ، ولا خرج من أهل البيت أحد ، حتى أنزل الله على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي ، حتى إنه لينحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشات ، من ثقل القول الذي أنزل عليه . قالت:فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، كان أول كلمة تكلم بها أن قال:"أبشري يا عائشة ، أما الله فقد برأك . فقالت لي أمي:قومي إليه . فقلت:والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل ، هو الذي أنزل براءتي وأنزل الله عز وجل:( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ) عشر آيات . فأنزل الله هذه الآيات في براءتي قالت:فقال أبو بكر ، رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره -:والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة . فأنزل الله عز وجل:( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ) إلى قوله ( ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) [ النور:22] فقال أبو بكر:والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه . وقال:لا أنزعها منه أبدا .
قالت عائشة:وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش - زوج النبي صلى الله عليه وسلم - ، عن أمري:يا زينب ، ما علمت ، أو ما رأيت [ أو ما بلغك] ؟ فقالت يا رسول الله ، أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيرا . قالت عائشة:وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فعصمها الله تعالى بالورع . وطفقت أختهاحمنة بنت جحش تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك .
قال ابن شهاب:فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط .
أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، من حديث الزهري . وهكذا رواه ابن إسحاق ، عن الزهري كذلك ، قال:وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عائشة . وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ، عن عمرة ، عن عائشة بنحو ما تقدم ، والله أعلم .
ثم قال البخاري:وقال أبو أسامة ، عن هشام بن عروة قال:أخبرني أبي ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت:لما ذكر من شأني الذي ذكر وما علمت به ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطيبا ، فتشهد فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال:"أما بعد ، أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي ، وايم الله ما علمت على أهلي من سوء ، وأبنوهم بمن والله ما علمت عليه من سوء قط ، ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر ، ولا غبت في سفر إلا غاب معي ". فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال:ائذن يا رسول الله أن نضرب أعناقهم ، فقام رجل من الخزرج - وكانت أم حسان [ بن ثابت] من رهط ذلك الرجل - فقال:كذبت ، أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم . حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج شر في المسجد ، وما علمت . فلما كان مساء ذلك اليوم ، خرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطح ، فعثرت فقالت:تعس مسطح ، فقلت:أي أم ، أتسبين ابنك؟ وسكتت ، ثم عثرت الثانية فقالت:تعس مسطح . فقلت لها:أي أم ، تسبين ابنك؟ ثم عثرت الثالثة فقالت:تعس مسطح . فانتهرتها فقالت:والله ما أسبه إلا فيك ، فقلت:في أي شأني؟ قالت:فبقرت لي الحديث . فقلت:وقد كان هذا؟ قالت:نعم والله . فرجعت إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه قليلا ولا كثيرا ، ووعكت ، وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:أرسلني إلى بيت أبي . فأرسل معي الغلام ، فدخلت الدار ، فوجدت أم رومان في السفل ، وأبا بكر فوق البيت يقرأ ، فقالت [ لي] أمي:ما جاء بك يا بنية؟ فأخبرتها ، وذكرت لها الحديث ، وإذا هو لم يبلغ منها مثل ما بلغ مني ، [ فقالت:يا بنية ، خفضي عليك الشأن; فإنه - والله - لقلما كانت امرأة حسناء ، عند رجل يحبها ، لها ضرائر إلا حسدنها ، وقيل فيها وإذا هو لم يبلغ منها ما بلغ مني ، فقلت:وقد علم به أبي؟ قالت:نعم . قلت:ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت:نعم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم] . فاستعبرت وبكيت ، فسمع أبو بكر صوتي ، وهو فوق البيت يقرأ ، فنزل فقال لأمي:ما شأنها؟ قالت:بلغها الذي ذكر من شأنها . ففاضت عيناه وقال:أقسمت عليك - أي بنية - إلا رجعت إلى بيتك فرجعت ، ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي ، فسأل عني خادمي فقالت:لا والله ما علمت عليها عيبا ، إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها - أو:عجينها - وانتهرها بعض أصحابه فقال:اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به ، فقالت:سبحان الله . والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر . وبلغ الأمر ذلك الرجل الذي قيل له ، فقال:سبحان الله . والله ما كشفت كنف أنثى قط - قالت عائشة:فقتل شهيدا في سبيل الله - قالت:وأصبح أبواي عندي ، فلم يزالا حتى دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى العصر ، ثم دخل وقد اكتنفني أبواي ، عن يميني وعن شمالي ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال:"أما بعد يا عائشة ، إن كنت قارفت سوءا أو ظلمت فتوبي إلى الله ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ". قالت:وقد جاءت امرأة من الأنصار ، فهي جالسة بالباب ، فقلت:ألا تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئا؟ فوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالتفت إلى أبي ، فقلت له:أجبه . قال:فماذا أقول؟ فالتفت إلى أمي فقلت:أجيبيه . قالت:أقول ماذا؟ فلما لم يجيباه ، تشهدت فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله ، ثم قلت:أما بعد ، فوالله لئن قلت لكم إني لم أفعل - والله عز وجل يشهد إني لصادقة - ما ذاك بنافعي عندكم ، لقد تكلمتم به ، وأشربته قلوبكم ، وإن قلت:إني قد فعلت - والله يعلم أني لم أفعل - لتقولن:قد باءت به على نفسها ، وإني - والله - ما أجد لي ولكم مثلا - والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه - إلا أبا يوسف حين قال:( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) [ يوسف:18] ، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من ساعته ، فسكتنا ، فرفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه ، وهو يمسح جبينه ويقول:"أبشري يا عائشة ، فقد أنزل الله براءتك "قالت:وكنت أشد ما كنت غضبا ، فقال لي أبواي:قومي [ إليه] فقلت:لا والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ، ولكن أحمد الله الذي أنزل براءتي ، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه ، وكانت عائشة تقول:أما زينب بنت جحش فقد عصمها الله بدينها ، فلم تقل إلا خيرا . وأما أختها حمنة بنت جحش ، فهلكت فيمن هلك . وكان الذي يتكلم به مسطح وحسان بن ثابت . وأما المنافق عبد الله بن أبي بن سلول فهو الذي [ كان] يستوشيه ويجمعه ، وهو الذي تولى كبره منهم هو وحمنة . قالت:وحلف أبو بكر ألا ينفع مسطحا بنافعة أبدا ، فأنزل الله:( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ) إلى آخر الآية ، يعني:أبا بكر ، ( والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين ) يعني:مسطحا ، إلى قوله:( ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) [ النور:22] . فقال أبو بكر:بلى والله يا ربنا ، إنا لنحب أن تغفر لنا وعاد له بما كان يصنع .
هكذا رواه البخاري من هذا الوجه معلقا بصيغة الجزم عن أبي أسامة حماد بن أسامة [ أحد الأئمة الثقات . وقد رواه ابن جرير في تفسيره ، عن سفيان بن وكيع ، عن أبي أسامة] به مطولا مثله أو نحوه . ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ، عن أبي أسامة ، ببعضه .
وقال الإمام أحمد:حدثنا هشيم ، أخبرنا عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت:لما نزل عذري من السماء ، جاءني النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني بذلك ، فقلت:نحمد الله لا نحمدك .
وقال الإمام أحمد:حدثني ابن أبي عدي ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة قالت:لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك ، وتلا القرآن ، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم .
وأخرجه أهل السنن الأربعة ، وقال الترمذي:هذا حديث حسن . ووقع عند أبي داود تسميتهم:حسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش .
فهذه طرق متعددة ، عن أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، في المسانيد والصحاح والسنن وغيرها .
وقد روي من حديث أمها أم رومان ، رضي الله عنها ، فقال الإمام أحمد:
حدثنا علي بن عاصم ، أخبرنا حصين ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن أم رومان قالت:بينا أنا عند عائشة ، إذ دخلت عليها امرأة من الأنصار فقالت:فعل الله - بابنها - وفعل . فقالت عائشة:ولم؟ قالت:إنه كان فيمن حدث الحديث . قالت عائشة:وأي حديث؟ قالت:كذا وكذا . قالت:وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت:نعم ، وبلغ أبا بكر؟ قالت:نعم ، فخرت عائشة ، رضي الله عنها ، مغشيا عليها ، فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض . قالت:فقمت فدثرتها ، قالت:وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ما شأن هذه؟ "قلت:يا رسول الله ، أخذتها حمى بنافض . قال:فلعله في حديث تحدث به ". قالت:فاستوت له عائشة قاعدة فقالت:والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني ، ولئن اعتذرت إليكم لا تعذروني ، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه ( والله المستعان على ما تصفون ) [ يوسف:18] قالت:وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عذرها ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم معه أبو بكر ، [ فدخل فقال:"يا عائشة ، إن الله تعالى قد أنزل عذرك ". فقالت:بحمد الله لا بحمدك . فقال لها أبو بكر:تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت:نعم . قالت:فكان فيمن حدث هذا الحديث رجل كان يعولهأبو بكر] فحلف أبو بكر ألا يصله ، فأنزل الله:( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ) إلى آخر الآية [ النور:22] ، قال أبو بكر:بلى ، فوصله .
تفرد به البخاري دون مسلم ، من طريق حصين وقد رواه البخاري ، عن موسى بن إسماعيل ، عن أبي عوانة - وعن محمد بن سلام - ، عن محمد بن فضيل ، كلاهما عن حصين ، به وفي لفظ أبي عوانة:حدثتني أم رومان . وهذا صريح في سماع مسروق منها ، وقد أنكر ذلك جماعة من الحفاظ ، منهم الخطيب البغدادي ، وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الخطيب:وقد كان مسروق يرسله فيقول:"سئلت أم رومان "، ويسوقه ، فلعل بعضهم كتب "سئلت "بألف ، فاعتقد الراوي أنها "سألت "، فظنه متصلا . قال الخطيب:"وقد رواه البخاري كذلك ، ولم تظهر له علته ". كذا قال ، والله أعلم .
فقوله:( إن الذين جاءوا بالإفك ) أي:بالكذب والبهت والافتراء ، ( عصبة ) أي:جماعة منكم ، ( لا تحسبوه شرا لكم ) أي:يا آل أبي بكر ( بل هو خير لكم ) أي:في الدنيا والآخرة ، لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة ، وإظهار شرف لهم باعتناء الله بعائشة أم المؤمنين ، حيث أنزل الله تعالى براءتها في القرآن العظيم الذي ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) [ فصلت:42] ولهذا لما دخل عليها ابن عباس ، رضي الله عنه وهي في سياق الموت ، قال لها:أبشري فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يحبك ، ولم يتزوج بكرا غيرك ، وأنزل براءتك من السماء .
وقال ابن جرير في تفسيره:حدثني محمد بن عثمان الواسطي ، حدثنا جعفر بن عون ، عن المعلى بن عرفان ، عن محمد بن عبد الله بن جحش قال:تفاخرت عائشة وزينب ، رضي الله عنهما ، فقالت زينب:أنا التي نزل تزويجي [ من السماء] قال:وقالت عائشة:أنا التي نزل عذري في كتابه ، حين حملني ابن المعطل على الراحلة . فقالت لها زينب:يا عائشة ، ما قلت حين ركبتيها؟ قالت:قلت:حسبي الله ونعم الوكيل . قالت:قلت كلمة المؤمنين .
وقوله:( لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ) أي:لكل من تكلم في هذه القضية ورمى أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، بشيء من الفاحشة ، نصيب عظيم من العذاب .
( والذي تولى كبره ) قيل:ابتدأ به . وقيل:الذي كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه ، ( له عذاب عظيم ) أي:على ذلك .
ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي بن سلول - قبحه الله ولعنه - وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث ، وقال ذلك مجاهد وغير واحد .
وقيل:بل المراد به حسان بن ثابت ، وهو قول غريب ، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على ذلك لما كان لإيراده كبير فائدة ، فإنه من الصحابة الذين كان لهم فضائل ومناقب ومآثر ، وأحسن محاسنه أنه كان يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بشعره] ، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هاجهم وجبريل معك "
وقال الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال:كنت عند عائشة ، رضي الله عنها ، فدخل حسان بن ثابت ، فأمرت فألقي له وسادة ، فلما خرج قلت لعائشة:ما تصنعين بهذا؟ يعني:يدخل عليك - وفي رواية قيل لها:أتأذنين لهذا يدخل عليك ، وقد قال الله:( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ) ؟ قالت:وأي عذاب أشد من العمى - وكان قد ذهب بصره - لعل الله أن يجعل ذلك هو العذاب العظيم . ثم قالت:إنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي رواية أنه أنشدها عندما دخل عليها [ شعرا] يمتدحها به ، فقال:
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت:أما أنت فلست كذلك . وفي رواية:لكنك لست كذلك .
وقال ابن جرير:حدثنا الحسن بن قزعة ، حدثنا سلمة بن علقمة ، حدثنا داود ، عن عامر ، عن عائشة أنها قالت:ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان ، ولا تمثلت به إلا رجوت له الجنة ، قوله لأبي سفيان - يعني ابن [ الحارث] بن عبد المطلب -:
هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ، ولست له بكفء؟ فشركما لخيركما الفداء
لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء
فقيل:يا أم المؤمنين ، أليس هذا لغوا؟ قالت:لا إنما اللغو ما قيل عند النساء . قيل:أليس الله يقول ( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ) ، قالت:أليس قد أصابه [ عذاب] عظيم؟ [ أليس] قد ذهب بصره وكنع بالسيف؟ تعني:الضربة التي ضربه إياها صفوان بن المعطل [ السلمي] ، حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك ، فعلاه بالسيف ، وكاد أن يقتله .