/م11
التّفسير
حديث الافك المثير:
تقول أوّل آية من الآيات موضع البحث ،دون أن تطرح أصل الحادثة ( إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم ) لأن من علائم الفصاحة والبلاغة ،حذفَ الجملِ الزائدة ،والاكتفاء بما تدلّ عليه الكلمات من معان شاملة .
كلمة «الإفك » على وزن «فكر » كما يقول الراغب الأصفهاني: يقصد بها كل مصروف عن وجهه ،الذي يحق له أن يكون عليه ،ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب «مؤتفكة » ثمّ اطلقت على كل كلام منحرف عن الحق ومجانب للصواب ،ومن ذلك يطلق على الكذب «أفك » .
ويرى «الطبرسي » في مجمع البيان أن الافك لا يطلق على كل كذبة بل الكذبة الكبيرة التي تبدل الموضوع عن حالته الأصلية ،وعلى هذا يستفاد أن كلمة «الافك » بنفسها تبيّن أهمية هذه الحادثة وكذب التهمة المطروحة .
وأمّا كلمة «العُصبة » فعلى وزنِ «فُعْلَة » مشتقّة من العَصَبْ ،وجمعها أعصاب ،وهي التي تربط عضلات الجسم بعضها مع بعض ،وعلى شكل شبكة منتشرة في الجسم ،ثمّ أطلقت كلمة «عصبة » على مجموعة من الناس متحدة وذات عقيدة واحدة .
واستخدام هذه الكلمة يكشف عن الارتباط الوثيق بين المتآمرين المشتركين في ترويج حديث الإفك ،حيث كانوا يشكلون شبكة قوية منسجمة ومستعدة لتنفيذ المؤامرات .
وقال البعض: إن هذه المفردة تستعمل في عشرة إلى أربعين شخصاً{[2752]} .
وعلى كل حال فإن القرآن طمأن وهدّأ روع المؤمنين الذين آلمهم توجيه هذه التهمة إلى شخصية متطهرة ( لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم ) ،لأنّه كشف عن حقيقةِ عدد من الأعداء المهزومين أو المنافقين الجبناء ،وفضح أمر هؤلاء المرائين ،وسوّد وجوههم إلى الأبد .
ولو لم تكن هذه الحادثة ،لما افتضح أمرهم بهذا الشكل ،ولكانوا أكثر خطراً على المسلمين .
إنّ هذا الحادث علّم المسلمين أن اتّباع الذين يروّجون الشائعات يجرّهم إلى الشقاء ،وأنَّ عليهم أن يَقِفُوا بقوّة أمام هذا العمل .كما علّم هذا الحادث المسلمين درساً آخر ،وهو أنَّ لا ينظروا إلى ظاهر الحادِثِ المؤلم ،بل عليهم أن يتبحّروا فيه ،فقد يكون فيه خيراً كثيراً رغم سوء ظاهره .
وممّا يلفت النظر أنّ ذكر ضمير «لكم » يعمّ جميع المؤمنين في هذا الحادث ،وهذا حقّ ،لأن شرف المؤمنين وكيانهم الاجتماعي لا ينفصل بعضه عن بعض ،فهم شركاء في السرّاء والضرّاء .
ثمّ تعقّب هذه الآية بذكر مسألتين:
أوّلاهما: ( لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ) إشارة إلى أنّ المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتق كبار المذنبين لا تحول دون تحمل الآخرين لجزء من هذه المسؤولية ،ولهذا يتحمل كلّ شخص مسؤوليته إزاء أية مؤامرة .
والمسألة الثّانية: ( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ) قال بعض المفسّرين: إن الشخص المقصود هو «عبد الله بن أبي سلول » قائد أصحاب الإفك .
وقال آخرون: إنّه مسطح بن أُثاثة .وحسان بن ثابت كمصاديف لهذا الخطاب .
وعلى كل حال ،فإنّ الذي نشط في هذا الحادث أكثر من الآخرين ،وأضرم نار الإفك ،هو قائد هذه المجموعة الذي سيُعاقَبُ عِقاباً عظيماً لِكبر ذنبه .( ويحتمل أن كلمة «تولى » يقصد بها رأس مروجي حديث الإِفك ) .