{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت}
/م49
قد رأيت أيها النبي الأمين متعجبا مستغربا حال الذين أوتوا حظا من الكتاب ، وعلموا بعض علم الرسالات الإلهية ، يؤمنون بأردإ العقائد والأخلاق ، وبالطغيان والظلم والاندفاع نحو الشر . فالجبت هنا هو الردئ من الأفكار ، أصله الجبس قلبت السين تاء ، وهو الردئ من الأشياء ، فهؤلاء يؤمنون بأردإ الأوهام ، ويؤمنون مع ذلك بالطغيان والسيطرة الظالمة ، ولذلك يخنعون لكل ذي سلطان ، ويضعون ظهورهم لكل راكب ، ويطغون على كل عادل لا يذل ولا يؤذى ! ! وعبر هنا بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ، وفي مقام آخر خاطبهم بقوله:{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم . . .( 47 )} ( النساء ) ، وذلك لأنهم أنزلت عليهم كتب الرسالة الأولى لنبيهم ، فبمقتضاها يدعون إلى الإيمان ، ولذا عبر بالكتاب كله لا ببعضه ، فهم في هذا المقام يخاطبون بمقتضى الكتاب الذي نزل على رسولهم . أما هنا فيذكر حقيقة أمرهم ، وهو أنهم نسوا حظا مما ذكروا به .
ومن جهة أخرى فإن نيلهم أقل قدر من علم الكتاب يتنافى مع إيمانهم بأتفه الأوهام ، وإيمانهم بالظلم والطغيان ، واعتبارهما سبيلا للعيش في الحياة ، فهم ظالمون يرضون بالظلم يقع عليهم ، ويتنافى علم الكتاب مع ممالأتهم لعبدة الأوثان على أهل التوحيد ، فيقولون في المشركين هؤلاء أهدى طريقا من المؤمنين ، وهذا قول الله تعالى:
{ ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا}والذين كفروا هنا هم المشركون ، أي أنهم يقولون لأجل إرضاء الذين كفروا وأشركوا وعبدوا الأوثان:هؤلاء في شركهم وعبادتهم غير الله تعالى أرشد طريقا ، وسبيلهم هو سبيل الهداية ، أما سبيل الذين آمنوا بالله وحده ، ولم يشركوا به غيره ، وأذعنوا لأحكام الله تعالى في أوامره ونواهيه ، فليس هو سبيل الرشاد .
ويروى أن اليهود عندما بلغ بهم حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم أقصى مداه ، ذهب فريق منهم إلى أهل مكة يحالفونهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم المشركون:أنتم أهل الكتاب ، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا ، فلا نؤمن مكركم ، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ، ففعلوا . وقال أبو سفيان:أنحن أهدى سبيلا أم محمد ؟ فقال المتحدث باسم اليهود:ماذا يقول محمد ؟ قالوا:يأمر بعبادة الله وحده وينهى عن الشرك ، وقال:ما دينكم ؟ قالوا:نحن ولاة البيت ونسقي الحجيج ، ونقري الضيف ونفك العاني ، قال:أنتم أهدى سبيلا .
هذا شأن أولئك اليهود العجب ، وهم قد أوتوا بعض علم الكتاب ، يدفعهم الهوى والتعصب وفساد النفس إلى أن يجعلوا عبدة الأوثان أهدى من عبدة الديان ! .