{ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين}
/م66
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة فضل الطاعة وجزاءها ، وهو أجر عظيم ، وهداية إلى الطريق الذي يوصل إلى القدسية ومرتبة المشاهدة لله تعالى ، وعظمته التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:{ اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"{[760]} وفي هذه الآية الكريمة يذكر لهم جزاء آخر ، وهو كرم الصحبة في الدنيا والآخرة ، فهم إذ يسيرون في الصراط المستقيم الموصل إلى الله يكونون في قافلة الأطهار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وما أحسنها رفقة طاهرة كريمة طيبة ! ! .
والإشارة في قوله تعالى:{ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم} إلى أولئك السابقين الذين أعطاهم الله سبحانه الأجر العظيم ، وهداهم للوصول إلى مرتبة السُّمو ، ومشاهدة المعاني القدسية وكرر ذكر الطاعة فقال:{ ومن يطع الله والرسول} ، لأن هذه الطاعة هي الأساس في هذه الأجزية المجزية ، الرافعة السامية الهادية ، وفي تكرارها تحريض عليها ، ودعوة إليها .
وقد ذكر سبحانه أن النبيين والصديقين والشهداء والصالحين قد أنعم عليهم ، وإن ذلك هو الحق الذي لا ريب فيه ، ففيهم جميعانعم ثلاث قد اختصوا بها أولها:نعمة الهداية والتوفيق وتلك هي الأساس . والثانية:نعمة إدراك معاني الربوبية والعبودية ، فهم يحسون بعظمة الخالق المنشئ ، كما يحسون بعظمة المعبود ، ويذوقون طعم الخضوع لله الواحد الأحد الذي ليس بوالد ولا ولد .
والثالثة:نعمة العمل الصالح . وتلك النعم هي معاني الإنسانية العالية التي تسمو عن كل مظاهر الحيوانية ، وما بقي منها فإنه تقوى به هذه المعاني العالية ، وتلك النعم السامية .
من هم أولئك الرفقاء الأطهار ؟ إنهم مراتب ودرجات ، وهم أربعة:
أولهم:النبيون وهم الذي أنبأهم الله ، واختارهم ليخبروا عنه سبحانه ، ويبلغوا الناس شرعه ويفسروه ، وإن من يبالغ في محبتهم وطاعتهم يكون معهم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"المرء مع من أحب"{[761]} .
وقد روى ابن جرير الطبري عن سعيد بن جبير قال:"جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون فقال:يا رسول الله ، شيء فكرت فيه ! فقال الرسول:
"ما هو"؟ قال:نحن نغدو إليك ننظر إلى وجهك ونجالسك ، وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك ! فنزل قوله تعالى:{ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم . . .} الآية . وروي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قلت:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:"إنك لأحب إلي من نفسي ، وأحب إلي من أهلي ، وأحب إلي من ولدي ، وإني لأكون في البيت فأذكرك ، فما أصبر حتى آتي ، فأنظر إليك ، وإذا ذكرت موتي عرفت أنك إن دخلت الجنة رفعت مع النبيين فخشيت ألا أراك . فنزلت الآية الكريمة"{[762]} .
والذي يعنينا في هذا أن من أحب الله ورسوله يكون مع حبيب الله محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء الأطهار .
والفريق الثاني من قافلة الأبرار الصد يقون ومرتبتهم تلي مرتبة النبيين ، والصديقون جمع صديق ، وقد فسر العلماء الصديق بأنه الصادق الذي لا يكذب ، وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني:الصديق من كثر منه الصدق ، وقيل:يقال لمن لا يكذب قط ، وقيل لمن لا يأتي منه الكذب لتعوده على الصدق ، وقيل:بل لمن صدق بقوله واعتقاده ، وحقق صدقه بعمله . قال تعالى:{ واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا( 56 )}( مريم ) وقال:{ وأمة صِدِّيقة . . .( 75 )}( المائدة ) وقال:{ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} .
وإن هذه المعاني متلازمة ، فمن صدق في قوله لا يكذب قط ، إذ يصير الصدق عادة نفسية له ، فلا يتأتى منه الكذب ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر ، والبر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا"{[763]} .
وإن الصدق في القول إذا صار عادة نفسية زكت النفس وطهرت ، واستقام الفكر والعمل ، وصار يدرك الحق لذات الحق ، ويتجه إلى طلبه من غير التواء ، فيدركه من غير حجة ولا برهان ، لأن أمارات الحق تلوح له ، ويدركها بنور قلبه . وكذلك كان صدِّيق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه ، وقد روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له نظرة ، غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم"{[764]} .
وإن زكاء النفس بمداومة الصدق يؤدي إلى سلامة الاعتقاد ، وصحة العمل ، وإلى المداومة على تعرف عيوبها ، فيكون الصدوق سليم النظر في كل شيء لم يلبس بباطل ، وبذلك يكون الصدِّيق لا يتأتي منه الكذب ، ويسلم قلبه كما سلم لسانه ، ويصح اعتقاده كما يصلح عمله .
والفريق الثالث من قافلة البر ، هم الشهداء ، وهم الذين شهدوا الحق وعلموه علما كعلم المعاينة والمشاهدة ، فهؤلاء يشهدون بالحق ، ويعلنون ويدعون إليه ، فهم الذين قال الله تعالى في أمثالهم:{ وكذلك جعلنا أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا( 143 )}( البقرة ) ، فهم حضور الحق والشاهدون به والداعون إليه ، وإن من أولئك بلا ريب الذين يقتلون في الجهاد في سبيل الله تعالى لإعلاء كلمة الحق ، قاصدين وجه الله بقتالهم ، لأنهم شهدوا الحق وأعلنوه ، وضربوا الأمثال على افتدائه بأنفسهم ، وشهد الله تعالى لهم بالجنة .
والفريق الرابع الصالحون ، وهم من صلحت نفوسهم وأعمالهم فهم صالحون في الباطن والظاهر .
هذه القافلة المكونة من هذه الطوائف الأربع ، هم أهل الإيمان حقا وصدقا ، وهو رفقاء الخير ، ورفقتهم أحسن النعم ، ولذا قال سبحانه:
{ وحن أولئك رفيقا} الرفيق هو الصاحب الذي يلازمك في عمل أو سفر ، وسمي رفيقا لأنك ترتفق به وتستعين ، ويعاون كل منكما صاحبه ، ويأتنس به في العمل والسفر والملازمة بشكل عام . والرفيق هنا ذكر مفردا واستعمل في معنى الجمع ، فالمعنى:وحسن أولئك رفقاء ! وإنما أفرد لأن الحسن في ذات الرفقة ، ولأن المصاحبة إفرادية ، فكل واحد يصاحب الأحاد والجميع ، فهم جميعا في معنى رفيق واحد ، لتشاكل النفوس وتوافقها . وقال الزمخشري:إن "حَسُن"في معنى فعل التعجب ، فالمعنى:ما أحسن وأطيب رفقة هؤلاء ! ولذلك كانت نعمة أنعم الله بها على عباده المخلصين . وهي من فضله .