( وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون ) الفتنة أصل معناها إدخال الذهب النار لتظهر جودته ، وأطلقت الفتن في لغة القرآن على الشدائد التي تنزل ليختبر قلب المؤمن ، فإن صبر ظهر إيمانه قويا شديدا ، وإن خار ووهن كان من ضعفاء الإيمان ولقد قال تعالى:( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون 2 ) ( العنكبوت ) .
واليهود لما أنعم الله تعالى به عليهم إذ أخرجهم من قسوة فرعون ، ونجاهم بفلق البحر ، حتى مروا وغلقه على فرعون وقومه ، حتى غرقوا ، وهم ينظرون وأعطاهم من بعد ذلك المن والسلوى وغير ذلك ما أجزله تعالى عليهم من خير ، حسبوا أن الإيمان جلب لا سلب فيه ، وهناءة لا يرنقها تعب ، ولذلك حسبوا ألا تكون فتنة تنزل بهم ، ولكن الله أنزل عليهم هزائم تتلوها هزائم واختبرهم بقحط ينزل بهم حتى يصقل إيمانهم وكان ذلك الحسبان منهم لانغمار نفوسهم بالشهوات ، لأنها تعمى وتصم ، وترين على البصر بغشاوة فلا يرى ، وتضع على الآذان وقرا فلا تسمع .ولذلك رتب الله تعالى على حسبانهم ألا فتنة تنزل أن عموا عن إدراك الحق فلم يصلوا إليه ، وأن صموا عن سماع الهادي فلم ينصتوا إليه ، وبذلك سدت عليهم منافذ الإدراك ، فلا عقل يدركون به إذ غشيته الشهوات حتى أعمته وجعلت عليه غشاوة ولا وعى يستمعون به إلى صوت الهداية .
وقد نزلت بهم شدائد صقلت نفوسهم كالشدائد التي أنزلها التتار بهم ، فاستيقظت مداركهم ، وسمعت الحق آذانهم ، وجاء الأنبياء أمثال داود وسليمان فأنقذوهم ، ولكن ما إن أحسوا ببحبوحة النعمة حتى استولت عليهم الشهوات فعموا وصموا ولكن كانت بقية صالحة ، وهنا مباحث لفظية نذكرها ، لأنها تقرب إلينا معنى النص الكريم .
الأول- أن قوله تعالى:( الا تكون فتنة ) بنصب النون في تكون ، وقرئ بضمها{[964]} والقراءة الأولى على أساس أن( حسب ) بمعنى الظن الغالب ، والثانية- على أساس أن ( حسب ) بمعنى علم ، والقراءتان متواترتان ، وهما تنتهيان إلى أنهم ظنوا ثم لغلبة الشهوات وسيطرتها تحول الظن إلى يقين أو كاليقين .
الثاني – أن معنى:( عموا وصموا ) فيه تشبيه حالهم في غلف قلوبهم واستيلاء الشهوات عليهم وعدم إدراكهم الحق بأنفسهم وعدم استماعهم للداعية بحال الأعمى الذي لا يبصر ، ولا يستمع إلى من يدعوه ليسير في الطريق القويم .
الثالث – أن المفسرين أرادوا أن يفسروا متى كانت التوبة التي يسترشدون فيها ثم الصمم الذي يلي الرشاد وقالوا في ذلك أقوالا كثيرة ، وعندي أن توبتهم بشديدة تنزل بهم ، يخرجهم الله منها ، ثم عودتهم على ما كانوا عليه متكررا .
الرابع ، أن قوله تعالى:( ثم عموا وصموا كثيرا منهم ) فيه معنى التراخي المعنوي لبعد ما بين التوبة والعمى والصمم . وكثير منهم بدل من الضمير وفي هذا إشارة إلى تأصل الصمم والعمى حتى صاروا أهلا لأن يحكم على الجميع بسببهم ولكن عدل الله أخرج المهديين منهم .
بهذا ختمت الآية وهي تدل على أن الله جل جلاله عليم بما كان منهم علم من يبصر وهو مجازيهم بأعمالهم وهو فوقهم وهو بكل شيء محيط