{ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي وظنوا ظنا تمكن من نفوسهم فكان كالعلم في قوته أنه لا توجد ولا تقع لهم فتنة بما فعلوا من الفساد .والفتنة الاختبار بالشدائد كتسلط الأمم القوية عليهم بالقتل والتخريب والاضطهاد ، وقيل المراد بها القحط والجوائح ؛ ولس بظاهر هنا .وإنما المتبادر أن المراد بما أجمل هنا هو ما جاء مفصلا في أوائل سورة الإسراء – التي تسمى سورة بني إسرائيل أيضا- من قوله تعالى:{ وقضينا إلى بني إسرائيل في كتاب:لتفسدن في الأرض مرتين} – إلى قوله –{ عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا} [ الإسراء:44] فالفساد مرتين هنالك هو المشار إليه هنا بقوله تعالى:
{ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ} أي فعموا عن آيات الله في كتبه الدالة على عقاب الله للأمم المفسدة الظالمة ، وعن سننه في خلقه المصدقة لها ، وصموا عن سماع المواعظ التي جاءهم بها الرسل ، وأنذروهم بها الرسل ، وأنذروهم بها عقاب الله لمن نقض ميثاقه ، وخرج عن هداية دينه ، فاتبع هواه ، وظلم نفسه الناس ، فلما عموا وصموا وانهمكوا في الظلم والفساد ، سلط الله تعالى عليهم البابليين فجاسوا خلال الديار وأحرقوا المسجد الأقصى ونهبوا الأموال ، وسبوا الأمة وسلبوا الملك والاستقلال ، ثم رحمهم الله تعالى وتاب عليهم ، وأعاد إليهم ملكهم وعزهم ، ثم عموا وصموا مرة أخرى وعادوا إلى ظلمهم وإفسادهم في الأرض ، وقتل الأنبياء بغير حق ، فسلط الله تعالى عليهم الفرس ثم الروم ( الرومانيين ) فأزالوا ملكهم واستقلالهم .
أما قوله تعالى:( كثير منهم ) فهو بدل من فاعل عموا وصموا ، أو هو الفاعل والواو علامة الجمع على لغة بعض العرب من الأزد التي يعبر النحاة بكلمة واحد من أهلها قال:( أكلوني البراغيث ) والمراد أن عمى البصيرة والختم على السمع لم يكن عاما مستغرقا لكل فرد من أفرادهم ، وإنما كان هو الكثير الغالب عليهم .وتقدم قريبا في تفسير{ كثير منهم يعلمون} [ المائدة:66] بيان حكمة التدقيق في القرآن بنسبة الفساد للكثير أو الأكثر في الأمة .وإنما يعاقب الله الأمم بالذنوب إذا كثرت وشاعت فيها ، لأن العبرة بالغالب ، والقليل النادر لا تأثير له في الصلاح أو الفساد العام ، ولذلك قال تعالى:{ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم} [ الأنفال:25] وهذا هو الواقع وعلته ظاهرة ، وحكمته باهرة .
{ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} الآن من الكيد لخاتم الرسل ، فإتباع الهوى قد أعماهم وأصمهم مرة أخرى ، فتركهم لا يبصرون ما جاء به من النور والهدى ، وما هو عليه من النعوت والصفات التي أشار إليها النبيون في بشارتهم به ، ولا يسمعون ما يتلو عليهم من الآيات ، وما فيها من الحجج والبينات ، وسيعاقبهم الله تعالى على ذلك بمثل ما عاقبهم على ما قبله .وقد غفل عن هذا المعنى جمهور المفسرين فجعلوا ( يعلمون ) بمعنى الماضي .ونكتة التعبير به استحضار صورة أعمالهم في ماضيهم ، وتمثيلها لهم ولغيرهم في حاضرهم ، كما قلنا في تفسير{ وفريقا يقتلون} [ المائدة:70] وما قلناه أقوى وأظهر ، وإنما تحسن هذه النكتة في العمل المعين المهم الذي يراد التذكير به بعد وقوعه بجعل الزمن الحاضر ، مرآة للزمن الغابر ، ولا يظهر هذا الحسن في الأعمال المطلقة المبهمة .
ومن مباحث اللفظ أن أبا عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب قرأوا ( أن تكون ) والأصل حينئذ:وحسبوا أنه – أي الحال والشأن – لا تكون فتنة ، فخففت أن المشددة وحذف ضمير الشأن المتصل ، وأشرب الحسبان معنى العلم كما تقدم .