في الآية التّالية إِشارة إلى غرورهم أمام كل ما اقترفوه من طغيان وجرائم: ( وحسبوا أن لا تكون فتنة ) أي ظنوا مع ذلك أن البلاء والجزاء لن ينزل بهم ،واعتقدواكما صرحت الآيات الأُخرىأنّهم من جنس أرقى ،وأنّهم أبناء الله !!
وأخيراً استحال هذا الغرور الخطير والتكبر إلى ما يشبه حجاباً غطى أعينهم وآذانهم: ( فعموا وصمّوا ) عن رؤية آيات الله وعن سماع كلمات الحقّ .
ولكنّهم عندما أصابتهم مظاهر من عقاب الله وشاهدوا نتائج أعمالهم المشؤومة ،ندموا وتابوا بعد أن أدركوا أن وعد الله حق ،وأنّهم ليسوا عنصراً متميزاً فائقاً .
وتقبل الله توبتهم: ( ثمّ تاب الله عليهم ) .
إِلاّ أنّ حالة الندم والتوبة لم تلبث طويلا ،فسرعان ما عاد الطغيان والتجبر وسحق الحقّ والعدالة ،وعادت أغشية الغفلة الناتجة عن الانغماس في الإِثم تحجب أعينهم وآذانهم مرّة أُخرى ( ثمّ عموا وصمّوا كثير منهم ) فلم يعودوا يرون آيات أو يسمعوا كلمة الحقّ ،وعمت الحالة الكثير منهم .
ولعل تقديم «عموا » على «وصمّوا » يعني أن عليهم أوّلا أن يبصروا آيات الله ومعجزات رسوله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ثمّ يستمعوا إلى تعاليمه ويستوعبوها .
وورود عبارة ( كثير منهم ) بعد تكرار ( عموا وصمّوا ) جاء لتوضيح أنّ حالة الغفلة والجهل والعمى والصمم تجاه الحقائق لم تكن عامّة ،بل كان بينهم بعض الأقلية من الصالحين ،وفي هذا دليل على أن تنديد القرآن باليهود لا ينطوي على أي جانب عنصري أو طائفي ،بل هو موجّه إلى أعمالهم فحسب .
هل أن تكرار عبارة ( عموا وصمّوا ) ذو طابع عام تأكيدي ،أم للإِشارة إلى حادثتين مختلفتين ؟
يرى بعض المفسّرين أنّ التكرار يشير إلى واقعتين مختلفتين حدثتا لبني إِسرائيل ،الأولى: الغزو البابلي لهم ،والثّانية: غزو الإِيرانيين والروم ،والقرآن أشار إِليها بشكل عابر في بداية سورة بني إِسرائيل .
ولا يستبعدأيضاًأنّ بني إِسرائيل قد تعرضوا مرات عديدة لهذه الحالات فحينما يشاهدون نتائج أعمالهم الشريرة ،كانوا يتوبون ،ثمّ ينقضون توبتهم ،وقد حدث هذا عدّة مرّات لا مرّتين فقط .
في نهاية الآية جملة قصيرة عميقة المعنى تقول: إنّ الله لا يغفل أبداً عن أعمالهم ،إِذ أنّه يرى كل ما يعملون: ( والله بصير بما يعملون ) .