أي كهذه الحال التي رأيتموها للمسارعة بالتكذيب لأول وهلة والاستمساك بأهدابه ، ليطبع الله على قلوب الكافرين ، فلا يدخلها نور الحق ، فهم سلكوا الباطل مسارعين إليه ، قبل أن يتبعوا ، فلما جاءهم الحق بالبينات فكان القلب قد أغلق على الباطل ، فضلوا وما أضلهم الله ، إذ هم الذين سدوا الطريق وإن أولئك الذين طبع الله تعالى قلوهم قد أفسدوا فطرتهم بإصرارهم على التكذيب ، وخالفوا العهد الذي أخذ الله على بني آدم ، من ظهورهم وذريتهم ، وإذا قال تعالى:{ وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ( 102 )} .
الفطرة الإنسانية توجب الإيمان ، لو استقامت على طريقتها من غير وسوسة الشياطين ، ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم كما في صحيح البخاري ومسلم:( كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) ( 1 ){[1125]} .
وروى مسم بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:( يقول الله تعالى:( إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ) ( 2 ){[1126]} .
وإن الله تعالى عهد إلى بني آدم من ظهورهم ذريتهم أن يؤمنوا بالله ، فقال تعالى:{ وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ( 172 )} هذا عهد الله على بني آدم ، وهم في ضلال آياتهم ، قبل أن يصلوا إلى أرحام أمهاتهم ، وهذا يدل على أن الإيمان المذعن هو استجابة للفطر ، ومن يكفر بالحق إذ جاءه إنما يحيد بالإنسان عن طريق الفطرة المستقيمة .
وقوله تعالى:{ وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ( 102 )} الذين فسقوا عن أوامر الله تعالى ونواهيه التي جاء بها النبيون وكذبوا ليس لهم من عهد ، يوفون به ، حتى عهد الفطرة التي فطرهم الله تعالى ، فهم خالفوا العهد الأول ، وخالفوا كل عهد عاهدوه ، حتى انحلت نفوسهم انحلالا ، و ( من ) هنا لاستغراق النفي ، أي ما وجدنا لأكثرهم أي عهد يحترمونه ، وينفذونه ، وأولها وأقواها عهد الفطرة الذي أخذه الله تعالى في الأصلاب .
وإذ كانوا لا عهد لهم ، وخالفوا فطرة الله التي فطرهم ، فهم فاسقون خارجون عن قضايا العقل البديهية ؛ ولذا قال تعالى:{ وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} إن هنا هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن اسمها ، وقوله تعالى:{ وجدنا أكثرهم لفاسقين} ، والمعنى إنه أي الحال والشأن وجدنا . . . . . . . . . . . . . .
و اللام في قوله{ لفاسقين} لام التوكيد ،واقعة في خبر إن .
ونجد هنا حكم الله تعالى العادل ، يحكم بالكثرة الغالبة ، لا بالكلية الشاملة ، فمنهم صالحون ومنهم فاسقون وإن الأمم لا توصف كلها بالفسوق ؛ لأنها تفسق كلها ، إنما توصف بالفسق ؛ لأن كثرتها الغالبة المسيطرة ، الفاسقة فهي الظاهرة البارزة ، وهي المسيطرة على الجماعة ، وهي التي توجد رأيا عاما فاسدا ، يسوده الشر ، ويختفي فيه الخير والله رءوف بالعباد .