عطفت جملة:{ وما وجدنا لأكثرهم من عهد} على جملة:{ ولقد جاءتهم رسلهم} وما رتب عليها من قوله:{ فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل} تنبيهاً على رسوخ الكفر من نفوسهم بحيث لم يقلعه منهم لا ما شاهدوه من البينات ،ولا ما وضعه الله في فطرة الإنسان من اعتقاد وجود إله واحد وتصديق الرسل الداعين إليه ،ولا الوفاءُ بما عاهدوا عليه الرسل عند الدعوة: إنهم إن أتوهم بالبينات يؤمنون بها .
والوجدان في الموضعين مجاز في العلم ،فصار من أفعال القلوب ،ونفيه في الأول كناية عن انتفاء العهد بالمعنى المقصود ،أي: وفائه ،لأنه لو كان موجوداً لعَلمه مَنْ شأنه أن يعلمَه ويبحث عنه عند طلب الوفاء به ،لا سيما والمتكلم هو الذي لا تخفى عليه خافية كقوله:{ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً}[ الأنعام: 145] الآية ،أي لا محرم إلاّ ما ذكر ،فمعنى{ وما وجدنا لأكثرهم من عهد} ما لأكثرهم عهد .
والعهدُ: الالتزامُ والوعدُ المؤكّدُ وقوعُه ،والمُوَثّقُ بما يمنع من إخلافه: من يمين ،أو ضمان ،أو خشية مسبة ،وهو مشتق من عَهِد الشيء بمعنى عَرفه ،لأن الوعد المؤكد يعرفه ملتزمه ويحرص أن لا ينساه .
ويسمى إيقاع ما التزمه الملتزم من عهده الوفاءَ بالعهد ،فالعهد هنا يجوز أن يراد به الوعد الذي حققَه الأممُ لرسلهم مثل قولهم: فأننا بآية إن كنت من الصادقين ،فإن معنى ذلك: إن أتيتنا بآية صدقناك .ويجوز أن يراد به وعد وثقه أسلاف الأمم من عهد آدم أن لا يعبدوا إلاّ الله وهو المذكور في قوله تعالى:{ ألَمْ أعْهَدْ إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان}[ يس: 60] الآية ،فكان لازماً لأعقابهم .
ويجوز أن يراد به ما وعَدت به أرواح البشر خالقها في الأزل المحكيُ في قوله تعالى:{ وإذْ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريّاتهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربّكم قالوا بلى شهدنا}[ الأعراف: 172] الآية .وهو عبارة عن خلق الله فطرة البشرية معتقدة وجود خالقها ووحدانيتَه ،ثم حرفتها النزعات الوثنية والضلالات الشيطانية .
ووقوع اسم هذا الجنس في سياق النفي يقتضي انتفاءه بجميع المعاني الصادق هو عليها .
ومعنى انتفاء وجدانه .هو انتفاء الوفاء به ،لأن أصل الوعد ثابت موجود ،ولكنه لما كان تحققه لا يظهر إلاّ في المستقبل ،وهو الوفاء ،جعل انتفاء الوفاء بمنزلة انتفاء الوقوع ،والمعنى على تقدير مضاف ،أي: ما وجدنا لأكثرهم من وفاء عهد .
وإنما عدّي عدم وجدان الوفاء بالعهد في{ أكثرهم} للإشارة إلى إخراج مؤمني كل أمة من هذا الذم ،والمراد بأكثرهم ،أكثر كل أمة منهم ،لا أمة واحدة قليلة من بين جميع الأمم .
وقوله:{ وإنْ وجدْنا أكثرهم لفَاسقين} إخبار بأن عدم الوفاء بالعهد من أكثرهم كان منهم عن عمد ونكث ،ولكون ذلك معنى زائداً على ما في الجملة التي قبلها عطفت ولم تجعل تأكيداً للتي قبلها أو بياناً ،لأن الفسق هو عصيان الأمر ،وذلك أنهم كذبوا فيما وعدوا عن قصد للكفر .
و ( إنْ ) مخففة من الثقيلة ،وبعدها مبتدأ محذوف هو ضمير الشأن ،والجملة خبر عنه تنويهاً بشأن هذا الخبر ليعلمه السامعون .
واللام الداخلة في خبر{ وجدنا} لام ابتداء ،باعتبار كون ذلك الخبر خبراً من جملة هي خبر عن الاسم الواقع بعد ( إنْ ) ،وجلبت اللام للتفرقة بين المخففة والنافية .
وقد تقدم نظير هذا عند قوله تعالى:{ وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}[ آل عمران: 164] .
وأسند حكم النكث إلى أكثر أهل القرى ،تبيناً لكون ضمير{ فما كانوا ليؤمنوا} جرى على التغليب ،ولعل نكتة هذا التصريح في خصوص هذا الحكم أنه حكم مذمة ومسبة ،فناسبت محاشاة من لم تلتصق به تلك المسبة .