وفي الآية اللاحقة يبيّن تعالى قسمين آخرين من نقاط الضعف الأخلاقي لدى هذه الجماعات ،والتي تسببت في ضلالها وهلاكها .
في البداية يقول: إنّهم كانوا لا يحترمون العهود والمواثيق بل ينقضونها ( وما وجدنا لأكثرهم من عهد ) .
وهذا العهد يمكن أن يكون إشارة إلى «العهد الفطري » الذي أخذه الله على جميع عباده بحكم الجبلة والفطرة ،لأنّه عندما أعطاهم العقل والذكاء والقابلية ،كان مفهوم ذلك هو أخذ العهد الميثاق منهم بأن يفتحوا عيونهم وآذانهم ،ويروا الحقائق ويسمعوها ،وهذا هو ما أشارت إليه الآيات الأخيرة من هذه السورة ( أي الآية 173 ) وهو المعروف ب «عالم الذّر » الذي سنشرحه بإذن الله في ذيل تلك الآيات .
كما أنّه يمكن أن يكون إشارة إلى العهد الذي كان الأنبياء الإلهيون يأخذونه من الناس ،وكان أكثر الناس يقبلونه ،ولكنّهم ينقضونه .
أو يكون إشارة إلى جميع المواثيق «الفطرية » و«التشريعية » .
وعلى كل حال فإنّ روح نقض الميثاق كان من أسباب معارضة الأنبياء والإصرار على سلوك طريق الكفر والنفاق ،والابتلاء بعواقبها المشؤومة .
ثمّ يشير القرآن الكريم إلى عامل آخر إذ يقول: ( وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) .
يعني أن روح التمرد والتجاوز على القانون ،والخروج عن نظام الخلقة والقوانين الإلهية ،كان عاملا آخر من عوامل استمرارهم على الكفر ،وإصرارهم على مخالفة الدعوة الإِلهية .
ويجب الانتباه إلى أن الضمير في «أكثرهم » يرجع إلى جميع الأقوام والجماعات السالفة .
وما ورد في الآية من أن أكثرهم ينقضون العهد إنّما هو من باب رعاية حال الأقليات التي آمنت بالأنبياء السابقين ،وبقيت وفيّة لهم ،وهذه الجماعات المؤمنة وإن كانت قليلة وضئيلة العدد جدّاً بحيث أنّها ما كانت تتجاوز أحياناً أُسرة واحدة .ولكن روح الواقعية وتحري الحق المتجلّية في كل آيات القرآن أوجبت أن لا يتجاهل القرآن الكريم حق هذه الجماعات القليلة أو الأفراد المعدودين ،بل يراعيها فلا يصف جميع الأفراد في المجتمعات السالفة بالانحراف والضلال ونقض العهد والفسق .
وهذا موضوع جميل جدّاً ،وجدير بالاهتمام ،وهو ما نشاهده ونلحظه في آيات القرآن كثيراً .