فإذا كان منا مخالفة فأنت خير الغافرين ، و{ خير} هنا للتفضيل ، ولكنه في غير بابه ، والمعنى أنت غفار بقدر لا يتصور أن يكون فوقه قدرة ، ولا يفاضل بينه وبين غيره .
{ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك} .
هذه ضراعة إلى الله تعالى إلى أن يوفقهم للخير ، وألا يجعلهم من الأشقياء ، دعوا ربهم أن يكتب لهم في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وحسنة الدنيا هي الحال الطيبة التقية ، النقية الطاهرة التي تكون غايتها إرضاء الله تعالى ، والبعد عن معصيته وفي الآخرة ، والدعوة إلى الكتابة في الدنيا ، دعوة إلى العمل الطيب ، فحسنة الدنيا عمل صالح ونفع وخير ، وأن يكون مصدر خير دائم ، وفي الآخرة تكون الحسنة جزاء يكون وفاقا للعمل .
ولقد ذكر الله تعالى حسنة الدنيا ، وطوى في الذكر حسنة الآخرة ؛ لأنها ليست عملا ، بل هي جزاء على عمل في الدنيا ثمرة الأولى ، فمن حسنت دنياه وكانت للخير ، حسنت آخرته ، وكان نعيما مقيما .
{ قال عذابي أصيب به من أشاء . . . . . . . . . . . 156 )} وهو لمن اختار النفس والهوى ،{ ورحمتي وسعت كل شيء} وذلك لمن اختار طريق الحق والهداية كما قال تعالى:{ ونفس وما سواها ( 7 ) فألهمها فجورها وتقواها ( 8 )} ( الشمس ) ، وقال تعالى:{ وهديناه النجدين ( 10 )} ( البلد ) أي نجد الخير ، ونجد الشر .
وقد أسند العذاب إليه وإلى مشيئته سبحانه لعظم العقاب ، ولبيان أنه حق ، وأنه من عند الله ، وقد كتب العدل على نفسه كما جاء في الحديث القدسي ( 1 ){[1129]} ، فهو العدل وهو خير الفاصلين ، وقدم الله تعالى ذكر العذاب على الثواب ؛ لأنه يكون لمخالفي الفطرة وللتحذير قبل التبشير ، ليختار المكلف نجد الخير .
وقوله تعالى:{ ورحمتي وسعت كل شيء} العموم فيها عموم كامل صادق ، وقال سبحانه وتعالى:{ كل شيء} ولم يقل كل شخص ، للإشارة إلى أن الرحمة شاملة عامة للأشياء والأشخاص ، فشريعته عدل ورحمة وإرساله الرسل عدل ورحمة وخلقه الكون وما فيه من شمس مشرقة مضيئة للكون ، وقمر منير ، ونجوم ذات بروج ، وسحاب ورياح مرسلات رحمة ، وهكذا كل ما سخره الله تعالى للإنسان ، وما مكنه من رحمة به .
هذه إشارة إلى معنى العموم الذي اشتمل عليه ذلك النص السامي ، وما ترمي إليه رحمته ، وغن نعيم الجنة رحمة من الله ، وقد كتبها الله تعالى للذين يؤمنون بالله وبالآخرة ؛ ولذا قال تعالى:{ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} .
الفاء هنا لتفصيل بعض العام ، والسين لتأكيد المستقبل ، و( أكتبها ) ، أي أسجلها غèير قابلة للمحو ، وذكر أعمال أو أوصاف من يستحقونها ، فكانت خصالا ثلاثا:
الأولى – التقوى واستشعار مخافة الله ، وأن يتخذوا وقاية بينهم وبين الشر ، وذلك بتهذيب أنفسهم بالعبادات المهذبة للنفس ، التي يستشعر فيها المؤمن خشية الله تعالى ، وابتدأ – سبحانه وتعالى – بها لأنها أساس قوة الخير ، وهي روح التدين ، وعمران القلب بذكر الله تعالى .
الثانية – الائتلاف مع المجتمع الإسلامي ، بالمعونة والبر ، وأشار بذلك إلى إيتاء الزكاة ، فهي أساس التعاون الاجتماعي ، وهو سبحانه يذكرها بجوار التقوى ، وهي الكلمة الشاملة لأكثر العبادات تقريبا لله – سبحانه وتعالى – وإن التعاون الإنساني قرين العبادات ، بل هو منها ، وأقربها عند الله – سبحانه وتعالى .
الثالثة – أنهم يؤمنون بآيات الله تعالى وحدها ، يؤمنون بالمعجزات ولا يؤمنون بما يحيط به المشركون أنفسهم مما يثيرونه من أهواء ومفاسد وجحود ، ولذا قال تعالى{ و الذين هم بآياتنا يؤمنون} و قد قدم فيه الجار و المجرور على كلمة يؤمنون للدلالة على أنه لا يصح أن يؤمن بغيرها ، والإيمان بآيات الله إيمان بما دلت عليه ، وهدت إليه من إيمان بالوحدانية ، وحدانية الله تعالى بألا يشرك به شيئا ، وأكد سبحانه وجوب هذه الخصلة بثلاثة مؤكدات .
أولها – أنه كرر الموصول ، فإن التكرار تأكيد ، فقال:{ والذين} .
وثانيها – التعبير بالجملة الاسمية .
وثالثها – بضمير الفصل ، وأخيرا بذكر كلمة{ يؤمنون} ، فإن التعبير بالمضارع يفيد استمرار الإيمان وتجديده بالزيادة آنا بعد آن . جعلنا الله تعالى ممن كتب له رحمته برحمته وغفرانه .