جملة:{ قال} الخ جوابٌ لكلام موسى عليه السلام ،فلذلك فصلت لوقوعها على طريقة المحاورة ،كما تقدم غير مرة ،وكلام موسى ،وإن كان طلبا ،وهو لا يستدعي جواباً ،فإن جواب الطالب عناية به وفضْل .
والمراد بالعذاب هنا عذاب الدنيا ،لأن الكلام جواب لقول موسى:{ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} والإهلاك عذاب ،فبيّن اللَّهُ له أن عذاب الدنيا يصيب الله به من يشاء من عباده ،وقد أجمل الله سبب المشيئة وهو أعلم به ،وموسى يعلمه إجمالاً ،فالكلام يتضمن طمأنة موسى من أن يناله العذاب هو والبزآء من قومه ،لأن الله أعظم من أن يعاملهم معاملةَ المجرمين .والمعنى إني قادر على تخصيص العذاب بمن عصوا وتنجية من لم يشارك في العصيان ،وجاء الكلام على طريقة مجملة شأن كلام مَن لا يُسأل عما يعقل .
وقوله:{ ورحمتي وسعت كل شيء} مقابل قول موسى:{ فاغفر لنا وارحمنا} .وهو وعد تعريض بحصول الرحمة المسؤولة له ولمن معه من المختارين ،لأنها لما وسعت كل شيء فهم أرجى الناس بها ،وأن العاصين هم أيضاً مغمورون بالرحمة ،فمنها رحمة الإمهال والرزق ،ولكن رحمة الله عباده ذات مراتب متفاوتة .
وقوله:{ عذابي أصيب به من اشاء} إلى قوله{ كل شيء} جواب إجمالي ،هو تمهيد للجواب التفصيلي في قوله:{ فسأكتبها} .
والتفريع في قوله:{ فسأكتبها} تفريع على سعة الرحمة ،لأنها لما وسعت كل شيء كان منها ما يكتب أي يعطى في المستقبل للذين أجريت عليهم الصفات ويتضمن ذلك وعداً لموسى ولصلحاء قومه لتحقق تلك الصفات فيهم ،وهو وعد ناظر إلى قول موسى{ إنا هدنا إليك} والضمير المنصوب في{ أكْتُبها} عائدِ إلى{ رحمتي} فهو ضمير جنس ،وهو مساو للمعرف بلام الجنس ،أي اكتب فَردا من هذا الجنس لأصحاب هذه الصفات ،وليس المراد أنه يكتب جميع الرحمة لهؤلاء لأن هذا غير معروف في الاستعمال في الإخبار عن الأجناس ،لكن يُعلم من السياق أن هذا النوع من الرحمة نوع عظيم بقرينة الثناء على متعلِقها بصفات توذن باستحقاقها ،وبقرينة السكوت عن غيره ،فيعلم أن لهذا المتعلِق رحمة خاصة عظيمة وأن غيره داخل في بعض مراتب عموم الرحمة المعلومة من قوله:{ وَسِعت كل شيء} وقد أفصح عن هذا المعنى الحصر في قوله في آخر الآية{ أولئك هم المفلحون} .
وتقدم معنى{ أكتبها} قريباً .
وقد تقدم معنى:{ وسعت كل شيء} في قوله تعالى:{ وسع ربنا كل شيء علما} في هذه السورة ( 89 ) .
والمعنى: أن الرحمة التي سألها موسى له ولقومه وعدَ اللَّهُ بإعطائِها لمن كان منهم متصفاً بأنه من المتقين والمؤتين الزكاة ،ولمن كان من المؤمنين بآيات الله ،والآياتُ تصدق: بدلاِئل صدق الرسل ،وبكلمات الله التي شرع بها للناس رَشادهم وهديهم ،ولا سيما القرآن لأن كل مقدار ثلاث آيات منه هو آية لأنهُ معجز فدال على صدق الرسول ،وهو المقصود هنا ،وهم الذين يتبعون الرسول الامي إذا جاءهم ،أي يطيعونه فيما يأمرهم ،ولما جعلت هذه الأشياء بسبب تلك الرحمة علم أن التحصيل على بعضها يحصّل بعض تلك الرحمة بما يناسبه ،بشرط الإيمان ،كما علم من آيات أخرى خاطب الله بها موسى كقوله آنفاً{ والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا}[ الأعراف: 153] فتشمل هذه الرحمة من اتقى وآمن وآتى الزكاة من بني إسرائيل قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فإن أتباعهم إياه متعذر الحصول قبل بعثته ،ولكن يجب أن يكونوا عازمين على اتباعه عند مجيئه إن كانوا عالمين بذلك كما قال تعالى:{ وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}[ آل عمران: 81 ،82] .وتشمل الرحمة أيضاً الذين يؤمنون بآيات الله ،والمعنى بها الآيات التي ستجيء في المستقبل ،لأن آيات موسى قد استقر الإيمان بها يومئذ ،وهذا موجب إعادة اسم الموصول في ذكر أصحاب هذه الصلة ،للإشارة إلى أنهم طائفة أخرى ،وهم من يكون عند بعثة محمد عليه الصلاة والسلام ،ولذلك أبدل منهم قوله:{ الذين يتبعون الرسولَ} إلخ .
وهو إشارة إلى اليهود والنصارى الكائنين في زمن البعثة وبعدها لقوله:{ الذي يجدونه مكتوباً عندهم} ولقوله:{ ويضع عنهم إصرهم والأغلالَ التي كانت عليهم} فإنه يدل على أنهم كانوا أهل شريعة فيها شدة وحرج ،والمراد بآيات الله: القرآن ،لأن ألفاظه هي المخصوصة باسم الآيات ،لأنها جُعلت معجزات للفصحاء عن معارضتها .ودالة على أنها من عند الله وعلى صدق رسوله ،كما تقدم في المقدمة الثامنة .
وفي هذه الآية بشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وهي مشيرة إلى ما في التوراة من الإصحاح العاشر حتى الرابع عشر ،والاصحاح الثامن عشر من سفر التثنية: فإن موسى بعد أن ذكَرهم بخطيئة عبادتهم العجل ،وذكر مناجاته لله للدعاء لهم بالمغفرة ،كما تضمنه الإصحاح التاسع من ذلك السفر ،وذكرناه آنفاً في تفسير قوله:{ واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا} ،ثم ذكر في الإصحاح العاشر أمرهم بالتقوى بقوله: « فالآن يا إسرائيل ما يطلب منكَ الرب إلا أن تتقي ربك لتسلك في طرقه وتحبه » .ثم ذكر فيه وفي الثلاثة بعده وصايا تفصيلاً للتقوى ،ثم ذكر في الإصحاح الرابع عشر الزكاة فقال « تعشيراً تعشر كل محصول زرعك سنة بسنة عشر حنطتك وخمرك وزيتك وأبكار بقرك وغنمك ،وفي آخر ثلاث سنين تخرج كل عشر محصولك في تلك السنة فتضعه في أبوابك فيأتي اللاوي والغريب واليتيم والأرملة الذين على أبوابك فيأكلون ويشبعون » إلخ .ثم ذكر أحكاماً كثيرة في الإصحاحات الثلاثة بعده .
ثم في الإصحاح الثامن عشر قوله: « يُقيم لك الرب نبياً ومن وسط إخواتك مثلي له تسمعون حسب كل ما طلبتُ من الرب في حُوريب ( أي جبل الطور حين المناجاة ) يوم الاجتماع قال لي الرب أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك وأجعلُ كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به » فدل هذا على أن هذا النبي من غير بني إسرائيل لقوله: « من وسط أخوتك » فإن الخطاب لبني إسرائيل ،ولا يكونون إخوة لأنفسهم .وإخوتُهم هم أبناء أخي أبيهم: إسماعيل أخي إسحاق ،وهم العرب ،ولو كان المراد به نبيئاً من بني إسرائيل مثل ( صمويل ) كما يؤوله اليهود لقال: من بينكم أو من وسطكم ،وعُلم أن النبي رسول بشرع جديد من قوله: « مثلك » فإن موسى كان نبياً رسولاً ،فقد جمع القرآن ذلك كله في قوله:{ للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} إلخ .
ومن نكت القرآن الجمع في هذه الآية بين وصفي النبوة والرسالة للإشارة إلى أن اليهود بدّلوا وصف الرسول ،وعبروا عنه بالنبي ،ليصدق على أنبياء ليصدق على أنبياء بني إسرائيل ،وغفلوا عن مفاد قوله مثلك ،وحذفوا وصف الأمي ،وقد كانت هذه الآية سبب إسلام الحبر العظيم الأندلسي السموأل بن يحيى اليهودي ،كما حكاه عن نفسه في كتابه الذي سماه « غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود » .
فهذه الرحمة العظيمة تختص بالذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ،وتشمل الرسل والأنبياء الذين أخذ الله عليهم العهد بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فكانوا عالمين ببعثته يقيناً فهم آمنوا به ،وتنزلوا منزلة من اتبع ما جاء به ،لأنهم استعدوا لذلك ،وتشمل المسلمين من العرب وغيرهم غير بني إسرائيل ،لأنهم ساروا من آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام من اليهود في اتباع الرسول النبي الأمي .