{ واكتب لنا في هذه الدّنيا حسنة وفي الآخرة} أي وأثبت وأوجب لنا برحمتك وفضلك حياة حسنة في هذه الدنيا من العافية وبسط الرزق ، وعز الاستقلال والملك ، والتوفيق للطاعة ، ومثوبة حسنة في الآخرة بدخول جنتك ونيل رضوانك ، فهو كقوله تعالى فيما علمنا من دعائه{ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة} [ البقرة:201] فإن ثمرة دين الله على ألسنة جميع رسله سعادة الدارين:الدنيا والآخرة{ إنّا هدنا إليك} في لسان العرب:هاد يهود هودا ( أي من باب قال ) وتهود تاب ورجع إلى الحق فهو هائد ، وقوم هود- مثل حائك وحوك وبازل وبزل- قال أعرابي*إني امرؤ من مدحه هائد*
وفي التنزيل{ إنّا هدنا إليك} [ الأعراف:156] أي تبنا إليك وهو قول مجاهد وسعيد ين جبير وإبراهيم .قال ابن سيده:عداه بإلى لأن فيه معنى رجعنا .ابن الأعرابي:هاد- إذا رجع من خير إلى شر أو من شر إلى خير ، وداه إذا عقل ، ويهود اسم القبيلة قال:
أولئك أولي من يهود بمدحةٍ *** إذا أنت يوما قُلتها لم تؤنّب{[1250]}
وقيل إنما هذه القبيلة يهوذ فعربت بقلب الذال دالا اه ملخصا .والمعنى إنا تبنا إليك مما فرط من سفهائنا من طلب الآلهة وعبادة العجل ، وتقصير خيارنا في الإنكار عليهم –أو من طلب رؤيتك- أو من تمرد المغرورين على شريعتك ، وكفر نعمتك- تبنا ورجعنا إليك في جملتنا مستغفرين مسترحمين كما فعل أبونا آدم إذ تاب إليك من معصيته فتبت عليه وهديته واجتبيته ، فكانت تلك سنتك في ولده- يدل على هذا المعنى فصل قوله: "إنّا هدنا إليك "فإنه في مقام التعليل والاستدلال على استحقاق التائب المنيب بالقول والفعل والاعتقاد للمغفرة وقد كان مما حكاه الله تعالى من وحيه إلى موسى في سورة طه{ وإنّي لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثمّ اهتدى} [ طه:82] وبماذا أجابه الله تعالى ؟
{ قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كلّ شيء} أي قد كان من سبق رحمتي غضبي أن أجعل عذابي خاصا أصيب به من أشاء من الكفار والعصاة المجرمين وأما رحمتي فقد وسعت كل شيء في العالمين ، فهي من صفاتي القديمة الأزلية التي قام بها أمر العالم منذ خلقه ، والعذاب ليس من صفاتي بل من أفعالي المرتبة على صفة العدل ، ولهذا عبر عن التعذيب بالفعل المضارع وعن تعلق الرحمة بالفعل الماضي وهذه الرحمة هي العامة المبذولة لكل مخلوق ولولاها لهلك كل كافر وعاص عقب كفره وفجوره ،{ ولو يؤاخذ اللّه النّاس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة} [ فاطر:45] .
وهنالك رحمة خاصة يوجبها ويكتبها تعالى لبعض المؤمنين المحسنين ويبذل ما شاء منها لمن شاء بغير كتابة منه ، وما كتابته إلا فضل منه ورحمة ، وأما العذاب فلم يرد في الكتاب ولا في خبر المعصوم أن الله تعالى كتبه على نفسه ، ولكن أثبته وتوعد به فكان لابد من وقوعه ، ولأنه من متعلقات صفتي العدل والحكمة ، وقد أفرط قوم في النظر إلى عموم الرحمة وغفلوا عن النظر في مقتضى العدل والحكمة ، والوعيد على الكفر والمعصية ، فذهب بعضهم إلى عدم تعذيب أحد من المؤمنين ، وآخرون إلى عدم تعذيب أحد من العالمين ، ومن هؤلاء بعض غلاة التصوف الذين زعموا أن العذاب صوري لا حقيقي وأنه مشتق من العذوبة وأن في جهنم من هم أحب إلى الله تعالى من كثير من أهل الجنة- جعلهم الله منهم- وأفرط آخرون في النظر إلى مقتضى الحكمة فأوجبوا عليه تعالى تعذيب العصاة بارتكاب الكبائر لا الكفار فقط ، ولولا أن صار هذا وذاك مذهبا لسهل جمع كلمة الفريقين على الأخذ بظواهر نصوص القرآن ، في كل صفة من صفات الرحمان .
ولما قال مثل الزمخشري من جهابذة البيان ، في تفسير قوله تعالى:{ عذابي أصيب به من أشاء} أي من وجب علي في الحكمة تعذيبه ولم يكن في العفو عنه مساغ لأنه مفسدة انتهى ، فقد فسر من يشاء تعالى تعذيبه بمن وجب عليه تعذيبه ، وجماعته يقولون أن هذا وجوب عقلي لا يدخل في الإمكان سواه ولا تتعلق القدرة بخلافه ، وهذا المعنى ينافي المشيئة منافاة قطعية فكيف تفسر به ؟ يا ليت الزمخشري لم ينتحل مذهبا ولم ينظر في خلاف المذاهب ، وإذا لكان كشافه حجة على جميع أصحابها ومرجعا لهم في تحرير معاني نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف إذ كان من أدق علماء هذه اللغة فهما وأحسنهم بيانا لما فهم ، ومسألة الوجوب على الله تعالى نظرية فكرية لا لغوية ، والجمع بين الحكمة والرحمة لا يقتضي أن يجب على الله تعالى شيء لذاته ، وليس في النصوص ما يدل على هذا الوجوب إلا أن يوجبه تعالى بمشيئته ، بمعنى كتابته وجعله أمرا مقضيا ، وليس في إيجابه على نفسه بمشيئته ما في إيجاب عقول خلقه عليه من معنى استعلاء غيره عليه تعالى- أو من إيهام كونه عز وجل محكوما بما ينافي سلطانه الاختياري الذي هو فوق كل سلطان ، بل لا سلطان سواه ، وإنما سلطان غيره به ومنه ، فلو لم يكن في اختلاف التعبير إلا مراعاة الأدب لكفى .
{ فسأكتبها للّذين يتّقون ويؤتون الزّكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} الخ أي وإذا كان الأمر كذلك فسأكتب رحمتي كتبة خاصة وأثبتها بمشيئتي إثباتا لا يحول دونه شيء للذين يتقون الكفر والمعاصي والتمرد على رسولهم ، ويؤتون الصدقة المفروضة التي تتزكى بها أنفسهم ، وغيرها من أركان الدين ، وخص الزكاة بالذكر دون الصلاة وما دونها من الطاعات لأن فتنة حب المال تقتضي بنظر العقل والاختبار بالفعل أن يكون المانعون للزكاة أكثر من التاركين لغيرها من الفرائض .وفيه إشارة إلى شدة حب اليهود للدنيا وافتتانهم بجمع المال ومنع بذله في سبيل الله .
وقوله تعالى:{ والذين هم بآياتنا يؤمنون} معناه وسأكتبها كتبة خاصة للذين يصدقون بجميع آياتنا التي تدل على توحيدنا وصدق رسلنا تصديق إذعان ، مبني على العلم والإيقان ، دون التقليد للآباء وعصبيات الأقوام ، ونكتة إعادة الموصول ( الذين ) مع الضمير ( هم ) إما جعل الموصول الأول عاما لقومه الذين دعا لهم ، من استمروا على التزام التقوى وأداء الزكاة منهم وجعل الثاني خاصا بمن يدركون بعثة خاتم الرسل عليه السلام ويتبعونه كما يعلم مما بعده- وإما لبيان الفصل بين مفهوم الإسلام ومفهوم الإيمان والتعريض بأن الذين طلبوا من موسى أن يجعل لهم آلهة والذين عبدوا العجل والذين قالوا:{ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} لم يكونوا مؤمنين بآيات الله العامة ولا الخاصة التي جاء بها نبيهم إذ لم يكونوا يعقلونها بل كانوا متبعين له لإنقاذهم من ظلم المصريين- وبيان أن كتابة الرحمة الخاصة إنما تكون لمن جمعوا بين الإسلام وهو اتباع الرسل بالفعل ، والإيمان الصحيح بالآيات الإلهية المفيدة لليقين المانع من العودة إلى الشرك بمثل عبادة العجل والمقتضي لإتباع من يأتي من الرسل بمثل هذه الآيات ، وفي هذا توطئة لما بعده ، فهو بيان لصفة من يكتب تعالى لهم الرحمة على الإطلاق ، ويدخل فيهم موسى عليه السلام ومن يصدق عليهم ما ذكر من قومه وذلك يفيد استجابة دعائه بشرطه ، ويليه بيان أحق الأمم بهذه الرحمة ذكر على سبيل الاستطراد المقصود بالذات على سنة القرآن ، في الانتقال من قصص الرسل إلى أمة خاتم الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام ، وهو قوله عز وجل .{ الذين يتّبعون الرّسول النبيّ الأميّ}