الدعوة إلى الله
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ( 199 ) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 200 ) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( 201 ) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ( 202 ) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 203 )
بعد أن بين الله – سبحانه وتعالى – أن البراهين العقلية لا تجدي معهم ، وأن الأدلة الحسية لا ترشدهم ، وأنهم في الغي يعمهون فيه – أمر الله تعالى نبيه يستمر في دعوة الحق في رفق ، وحكمة ، وأن يبين مكارم الشريعة في ذاتها ، فإنها بما فيها من صلاح ودفع فساد ، وهداية داعية لنفسها من غير برهان ولا دليل ، مع التأليف ( 1 ){[1137]} ، كما قال تعالى:{ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن . . . . . . . . . . . ( 125 )} ( النحل ) وكما قال صلى الله عليه وآله وسلم:( تآلفوا النفوس ) ( 2 ){[1138]} والآيات الكريمة تبين:
أولا – جماع مكارم الأخلاق في قوله تعالى:
{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ( 199 )} .
وثانيا – تبين علاج النفس إذا عراها نزغ الشيطان وفساده بالغضب أو بالجهل والحمق ، وهو الاستعاذة من الشيطان الرجيم ، وذلك بقوله تعالى:{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 200 )} .
{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
فالاتجاه إلى الله في أزمات النفس فيه النجاة ، كالالتجاء إليه سبحانه في الكروب .
وثالثا – أن ذكر الله تعالى يبصر القلب بعماه إذا ضل ، وما ضل الذين ضلوا إلا بتركهم لذكر الله ، وقد بين ذلك بقوله تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( 201 )} .
ورابعا- وتبين أن عدوى الشر تجيء من إخوان السوء ، وهم الذين يمدون في الغي ويجعلون الضال يسيرا شاردا عن هداه . وقد بين سبحانه وتعالى – ذلك بقوله:{ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ( 202 )} .
وخامسا – أن ضلال الضالين إنما يكون بإغوائهم بطلب آيات يريدونها ويريدون أن يجتبيها لهم ، ومصداق هذا قوله تعالى:{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 203 )} .
هذه آيات بينات وهي تكشف معانيها من غير تبيين مبين ، ولا تفسير مفسر ، فهي كتاب مبين واضح ، ولكن ما نذكر من بيان ليس تفسيرا ، إنما ذكر لنسق القرآن الحكيم ، وضرب في ناحية من إعجازه الذي لا تتطاول إليه الأعناق ، فهي تنهد إليه وتتسامى ولا تسموا ، وتحاول ولا تصل .
{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ( 199 )} .
العفو هو الزائد الميسر الذي يسهل أخذه ، ويسهل إعطاؤه ، ويسهل القيام به ، فالنص داع لمن يعطي السهل الذي يمكن المداومة عليه من غير ضيق وتبرم ، كما قال تعالى:{. . . . . . . . . . . . ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو . . . . . . . . . . ( 219 )} ( البقرة ، ويقبل من الناس القليل ، ولا يكلفهم ما لا يطيقون من قول أو عمل ، ويفعل اليسير من العبادات الذي يمكن المداومة عليه ، ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:( أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ) ( 1 ){[1139]} . وكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم:( إن الله يحب الديمة من الأعمال ) ( 2 ){[1140]} . وإن العفو السهل اليسير يسهل المداومة عليه ، والاستمرار في عمله ، واقبل من الناس ما يسهل عليهم ولا تكلفهم شططا ، واجعل العفو دائما شعارك ، لا تشتط في الطلب ، ولا تعاسر الناس بل خذهم برفق ؛ فإن إن فعلت كسبت خيرهم ، واجتنبت شرهم ، وكنت أليفا مألوفا .
هذا هو الأمر الأول ، أما الثاني فهو قوله تعالى لنبيه:{ وأمر بالعرف} ، أي أمر بالأمر الحسن في ذاته الذي تألفه العقول ، ويألفه الناس ، ويدركونه ، وإن هذا يجمع كل ما أمرت به الشرائع الإلهية في معاملات الناس ، وفي اجتماعهم ، ولقد روينا في عدة مناسبات قول الأعرابي الذي سئل لماذا آمنت بمحمد فقال:ما رأيت محمدا يقول في أمر افعل ، والعقل يقول لا تفعل ، وما رأيت محمدا يقول في أمر لا تفعل ، والعقل يقول افعل .
وإن هذا النص الكريم قطعا على أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجاء به القرآن أمر متفق مع ما يأتي به العقول ، وما أمر به هو حسن في ذاته ، وما نهى عنه قبيح في ذاته ، وقال بعض العلماء:إن ما كان حسنا في ذاته فهو من أمر الله ، وما كان قبيحا في العقل فقد نهى الله عنه .
وقد أسرف ناس على أنفسهم وعلى الله فظنوا أن ما يستحسنونه أو يقبحونه فلهم أن يمنعوه ، وإن أباحه الله ، ولهم أن يوجبوه ، وإن منعه الله:{. . . . . . . . . . . . . كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ( 5 )} ( الكهف ) .
وقوله في الأمر الثالث:{ وأعرض عن الجاهلين} أي أهل الحمق والجهل ، الذين لا يهتدون بهدى ، ولا يسمعون مرشدا ، بل يعملون على إيذاء الداعي ، ويستهزئون بالمرشد ، وهؤلاء ليس لهم إلا أن يعرضوا عن هؤلاء ، كقوله تعالى:{ وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه . . . . . . . . . ( 55 )} ( القصص ) ، وكقوله تعالى:{. . . . . . . . . . . . . . . . وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ( 63 )} الفرقان ) .
ولما نزلت هذه الآية قال جبريل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:( إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك ) ( 1 ){[1141]} .
وفي الحق إن هذه الآية جمعت محاسن الأخلاق وبينت الشريعة ، وحكمت بين الناس