قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله:( خذ العفو ) يعني:خذ ما عفا لك من أموالهم ، وما أتوك به من شيء فخذه . وكان هذا قبل أن تنزل "براءة "بفرائض الصدقات وتفصيلها ، وما انتهت إليه الصدقات . قاله السدي .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس:( خذ العفو ) أنفق الفضل . وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس:قال:الفضل .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله:( خذ العفو ) أمره الله بالعفو والصفح عن المشركين عشر سنين ، ثم أمره بالغلظة عليهم . واختار هذا القول ابن جرير .
وقال غير واحد ، عن مجاهد في قوله تعالى:( خذ العفو ) قال:من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تحسس
وقال هشام بن عروة ، عن أبيه:أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس . وفي رواية قال:خذ ما عفا لك من أخلاقهم .
وفي صحيح البخاري ، عن هشام ، عن أبيه عروة ، عن أخيه عبد الله بن الزبير قال:إنما أنزل ) خذ العفو ) من أخلاق الناس وفي رواية لغيره:عن هشام ، عن أبيه ، عن ابن عمر . وفي رواية:عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة أنهما قالا مثل ذلك والله أعلم .
وفي رواية سعيد بن منصور ، عن أبي معاوية ، عن هشام ، عن وهب بن كيسان ، عن ابن الزبير:( خذ العفو ) قال:من أخلاق الناس ، والله لآخذنه منهم ما صحبتهم . وهذا أشهر الأقوال ، ويشهد له ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم جميعا:حدثنا يونس حدثنا سفيان - هو ابن عيينة - عن أمي قال:لما أنزل الله ، عز وجل ، على نبيه صلى الله عليه وسلم:( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما هذا يا جبريل ؟ "قال:إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك .
وقد رواه ابن أبي حاتم أيضا ، عن أبي يزيد القراطيسي كتابة ، عن أصبغ بن الفرج ، عن سفيان ، عن أمي عن الشعبي . نحوه ، وهذا - على كل حال - مرسل ، وقد روي له شاهد من وجوه أخر ، وقد روي مرفوعا عن جابر وقيس بن سعد بن عبادة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أسندهما ابن مردويه
وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا معاذ بن رفاعة ، حدثني علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن عقبة بن عامر ، رضي الله عنه ، قال:لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته ، فأخذت بيده ، فقلت:يا رسول الله ، أخبرني بفواضل الأعمال . فقال:"يا عقبة ، صل من قطعك ، وأعط من حرمك ، وأعرض عمن ظلمك ".
وروى الترمذي نحوه ، من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد ، به . وقال حسن
قلت:ولكن "علي بن يزيد "وشيخه "القاسم أبو عبد الرحمن "، فيهما ضعف .
وقال البخاري قوله:( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) "العرف ":المعروف . حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، أن ابن عباس قال:قدم عيينة بن حصن بن حذيفة ، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس - وكان من النفر الذين يدنيهم عمر - وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته - كهولا كانوا أو شبابا - فقال عيينة لابن أخيه:يابن أخي ، لك وجه عند هذا الأمير ، فاستأذن لي عليه . قال:سأستأذن لك عليه . قال ابن عباس:فاستأذن الحر لعيينة ، فأذن له عمر [ رضي الله عنه] فلما دخل عليه قال:هي يا ابن الخطاب ، فوالله ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم بيننا بالعدل . فغضب عمر حتى هم أن يوقع به ، فقال له الحر:يا أمير المؤمنين ، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) وإن هذا من الجاهلين ، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه ، وكان وقافا عند كتاب الله ، عز وجل . انفرد بإخراجه البخاري
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مالك بن أنس ، عن عبد الله بن نافع ; أن سالم بن عبد الله بن عمر مر على عير لأهل الشام وفيها جرس ، فقال:إن هذا منهي عنه ، فقالوا:نحن أعلم بهذا منك ، إنما يكره الجلجل الكبير ، فأما مثل هذا فلا بأس به . فسكت سالم وقال:( وأعرض عن الجاهلين )
وقول البخاري:"العرف:المعروف "نص عليه عروة بن الزبير ، والسدي ، وقتادة ، وابن جرير ، وغير واحد . وحكى ابن جرير أنه يقال:أوليته عرفا ، وعارفا ، وعارفة ، كل ذلك بمعنى:"المعروف ". قال:وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف ، ويدخل في ذلك جميع الطاعات ، وبالإعراض عن الجاهلين ، وذلك وإن كان أمرا لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنه تأديب لخلقه باحتمال من ظلمهم واعتدى عليهم ، لا بالإعراض عمن جهل الحق الواجب من حق الله ، ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته ، وهو للمسلمين حرب .
وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة في قوله:( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) قال:هذه أخلاق أمر الله [ عز وجل] بها نبيه صلى الله عليه وسلم ، ودله عليها .
وقد أخذ بعض الحكماء هذا المعنى ، فسبكه في بيتين فيهما جناس فقال:
خذ العفو وأمر بعرف كما أمرت وأعرض عن الجاهلين
ولن في الكلام لكل الأنام فمستحسن من ذوي الجاه لين
وقال بعض العلماء:الناس رجلان:فرجل محسن ، فخذ ما عفا لك من إحسانه ، ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه . وإما مسيء ، فمره بالمعروف ، فإن تمادى على ضلاله ، واستعصى عليك ، واستمر في جهله ، فأعرض عنه ، فلعل ذلك أن يرد كيده ، كما قال تعالى:( ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ) [ المؤمنون:96 - 98]
وقال تعالى:( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها ) أي هذه الوصية ( إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ) [ فصلت:34 - 36]