{خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين( 199 )}:
المفردات:
العفو: السهل اليسير من أخلاق الناس .
بالعرف: بالمعروف وهو ما شرعه الله لعباده وعرف حسنه شرعا وعقلا من عادات الناس .
التفسير:
{199 - خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} .
المناسبة:
في آيات سابقة نهى القرآن عن عبادة الأوثان ،وندد بعبادة الأصنام .
وتجئ هذه الآية وما بعدها إلى آخر سورة الأعراف دعوة إلهية كريمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولمن معه من المؤمنين ،إلى منهج سمح سهل ليّن في معاملة المشركين .
{خذ العفو وأمر بالعرف} .
جمعت هذه الآية أصول الفضائل ومكارم الأخلاق .
عن عبد الله بن الزبير قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس ا . ه .
ونجد في هذه الآية ثلاث فضائل:
1 – الأخذ بالعفو:
وهو اليسير والسهل من أخلاق الناس وأعمالهم ،دون تكليفهم بما يشق عليهم ،ومن غير تجسس ،وإنما يؤخذ بالسمح السهل ،واليسر دون العسر .
جاء في ظلال القرآن:"خذ العفو الميسر الممكن من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة ،ولا تطلب إليهم الكمال ،ولا تكلفهم الشاق من الأخلاق ،واعف عن أخطائهم وضعفهم ونقصهم ....".
روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا "86 .
ويدخل في العفو صلة القاطعين أرحامهم ،والعفو عن المذنبين ،والرفق بالمؤمنين .
وهذا هو الصنف الأول من الحقوق التي تستوفي من الناس ،وتؤخذ منهم بطريق المساهلة والمسامحة .
ويشمل ترك التشدد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية ،والتخلق مع الناس بالخلق الطيب ،وترك الغلظة والفظاظة .
قال تعالى:{ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} . ( آل عمران: 159 ) .
ومن هذا القسم: الدعوة إلى الدين الحق بالرفق واللطف .
كما قال تعالى:{جادلهم بالتي هي أحسن} . ( النحل: 125 ) .
2 – الأمر بالعرف:
وهو المعروف والجميل من الأفعال: وهو كل ما أمر به الشرع ،وتعارفه الناس من الخير ،واستحسنه العقلاء ؛فالمعروف اسم جامع لكل خير .
ولا يذكر المعروف في القرآن إلا في الأحكام المهمة ؛مثل قوله تعالى في وصف الأمة الإسلامية:{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} . ( آل عمران: 110 ) .
وفي تبيان الحقوق الزوجية قال تعالى:{ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهم درجة} . ( البقرة: 228 ) .
وأمر المعروف حتى في حالات الفرقة والطلاق .قال تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .( البقرة: 229 ) .
"ويشمل المعروف الخير الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة أو جدال ،والذي تلتقي عليه الفطر السليمة ،والنفوس المستقيمة ؛والنفس حين تعتاد هذا المعروف ؛يسلسل قيادها بعد ذلك ؛وتتطوع لألوان من الخير دون تكليف "87 .
3-الإعراض عن الجاهلين:
ويشمل تجاهلهم ،وعدم الرد عليهم ،أو الدخول معهم في خصومة وجدل ،كما يشمل كظم الغيظ والمقابلة بالصفح والعفو .
قال تعالى في وصف المؤمنين:{والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} . ( آل عمران: 134 ) .
وقال تعالى في فضيلة العفو:{وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم}( البقرة: 237 ) .
من كلام المفسرين
1 – جاء تفسير المنار:
فأنت ترى أن المعروف في هذه الآية معتبرة في هذه الأحكام المهمة ،وأن المعروف هو المعهود بين الناس في المعاملات والعادات ،ومن المعلوم بالضرورة أنه يختلف باختلاف الشعوب ،والبيوت والبلاد والأوقات ،فتحديده وتعيينه باجتهاد بعض الفقهاء بدون مراعاة عرف الناس ،مخالف لنص كتاب الله تعالى ،ولشيخ الإسلام ابن تيمية ،وغيره من فقهاء الحديث والحنابلة أقوال حكيمة في المعروف ؛منها: أنه يجب على كل من الزوجين من أعمال البيت والأسرة ما جرى العرف به .
وأنه إذا كان من المعروف عن بعض البيوت أنهن لا يزوجن بناتهن لمن يتزوج عليهن ويضارهن ،كان هذا كالشرط ؛فلا يجوز للرجل أن يتزوج على المرأة منهن88 .
2 – جاء في هامش زاد المسير لابن الجوزي نشر المكتب الإسلامي ما يأتي:
روى البخاري 8/ 229: أن ابن عباس قال: قدم عيينة بن حصين ابن حذيفة ،فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس ،وكان من النفر الذين يدينهم عمر ،وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته ،كهولا كانوا أو شبابا ،فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي ،لك وجه عند هذا الأمير ،فاستأذن لي عليه ،قال: سأستأذن لك عليه ،قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة ،فأذن له عمر ،فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب ،فوالله ما تعطينا الجزل ،ولا تحكم بيننا بالعدل ؛فغضب عمر حتى هم به ،فقال الحر: يا أمير المؤمنين ،إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} .وإن هذا من الجاهلين ،والله ما جاوزها عمر حين تلاها وكان وقافا عند كتاب الله89 .
3 – من التفسير المنير للدكتور وهبة الزحيلي:
وهذه المبادئ الثلاثة هي أصول الفضائل ومكارم الأخلاق فيما يتعلق بمعاملة الإنسان مع الغير .
قال عكرمة: لما نزلت هذه الآية ،قال عليه الصلاة والسلام: يا جبريل ،ما هذا ؟قال: إن ربك يقول: هو أن تصل من قطعك ،وتعطي من حرمك ،وتعفو عمن ظلمك90 .
وروى الطبري وغيره عن جابر مثل ذلك:
وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بمكارم الأخلاق ،وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها91 .
قال القاضي أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن: قال علماؤنا: هذه الآية من ثلاث كلمات ،قد تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات ،حتى لم يبق فيها حسنة إلا أوعتها ،ولا فضيلة إلا شرحتها ،ولا أكرومة إلا افتتحتها92 .