ولقد ذكر سبحانه وتعالى محاولتهم تكذيب ما يقال عنهم بالحلف ، والحلف الكاذب شارة المهانة ، كما قال تعالى:{ ولا تطع كلا حلاف مهين ( 10 )} ( القلم ) ، فقال سبحانه وتعالى عنهم:
{ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ( 62 )} .
إن هؤلاء المنافقين حاولوا الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأيدوا كذبهم بأيمان غموس غير صادقة ، وحسبوا أن ذلك يخدع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وظنوا أنهم قادرون على ذلك بأيمانهم لأنه أذن ، وقد بين سبحانه وتعالى فساد زعمهم في الآية السابقة ، وفي هذه الآية حاولوا أن يخدعوا المؤمنين بأيمانهم الكاذبة ؛ لأنهم يعيشون في أوساطهم ويساكنونهم ويجاورونهم فحالوا أن ينفوا عنهم نفاقهم بالأداة التي يملكونها ويملكها كل فاجر كافر فأخذوا يحلفون ، وقال الله تعالى في ذلك:{ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} ، لقد تخلفوا عن الجهاد في وقت النفير إلى بني الأصفر المتكاثف عددهم ، فكانوا بذلك جبناء ، وكانوا كاذبين في ادعائهم الكاذب ، وثبت بدليل قاطع نفاقهم ، والمنافق في وسط عربي صريح يعلن القوة ، ولا يتقبل المعاذر – مشنوء مهين ، فكانوا يحاولون تبرئة أنفسهم بالأيمان ، وقوله{ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ} ، التعبير بالمضارع لأنهم يحلفون في الحال لا في الماضي وفيه إشارة إلى أن الحلف شأنهم وهو متجدد ، وكلما كذبوا حلفوا ، وكلما تخلفوا بأعذار غير صادقة حلفوا ، فالحلف دينهم .
وقوله تعالى:{ لكم} إشارة إلى أن من معهم من العشراء والجيران من المؤمنين هم المقصودون ، وقد صرح سبحانه وتعالى بذلك فقال:{ ليرضوكم} أي أن الباعث لهم على هذا الحلف الكذب إرضاؤكم ، وإزالة الوحشة بينكم وبينهم ، وزوال النفرة التي تحسونها منهم .
وإن هذا الإرضاء مع أنهم يطلبونه يريدونه لغاية في أنفسهم ؛ لأن دوام النفرة منهم يمنعهم من الثقة فيهم ، وذلك لا يمكنهم من الدس الخسيس فيهم إذ لا يثقون فيهم ، والدس يحتاج إلى الثقة ممن يدسون لهم ، ويلقون بالفتنة فيهم ، وقد بين سبحانه وتعالى الغش في محاولة الإرضاء ، فقال تعالى:{ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} ، أي أن العيب فيكم ليس في اعتذار أو تخلف أو كذب ، إنما العيب الأصيل هو النفاق ، فالنفاق هو الذي جعلكم تتخلفون عن الجهاد ، وهو الذي جعلكم تعتذرون عنه بأعذار مكذوبة ، وهو الذي جعلكم تحلفون ممتهنين الأيمان المغلظة .
فهم حاولوا إرضاء المؤمنين ولم يحاولوا إرضاء الله ورسوله لأنهم يعلمون أن ذلك غير ممكن ، ولذا قال تعالى فيما تلونا{ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} ، أي لو كانوا مؤمنين ولا يريدون التخلف ، وإن تخلفوا فبأعذار صادقة – لآمنوا أن الله ورسوله أحق بالإرضاء ، وإرضاء الله ورسوله ليس بالأيمان الكاذبة ، إنما هو بأن يخلعوا أنفسهم من النفاق ، ويؤمنوا بالله ورسوله حق الإيمان .
وفي قوله تعالى:{ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} ، إشارة بيانية ، وهي أن الله تعالى ورسوله ذكر أنهما أحق بالإرضاء ، ولكنه عند عود الضمير أعاده مفردا{ يُرْضُوهُ} ، وذلك للإشارة إلى أن إرضاء أحدهما إرضاء لهما ، فإرضاء الله تعالى إرضاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإرضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إرضاء لله تعالى ، كما قال:{ من يطع الرسول فقد أطاع الله . . . . . . ( 80 )} ( النساء ) ، وفي ذلك إشارة إلى أن الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إنما يتهجمون على مقام الألوهية ويتحدون الله ورسوله ، ولقد قال تعالى:{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ( 63 )} .