وهؤلاء الذين عاهدوا ، وغدروا ، ولم يوفوا بما وعدوا من صدقة إن أغناهم الله من فضله- عيابون شأن كل منافق كله عيوب ، ويعيب على غيره ، فهم يعيبون على الذين يتطوعون بقليل من المال وقد بذلوا أقصوا طاقتهم ويقول الله تعالى في بيان هذا الحال فيهم:{ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم .79 )
{ الذين} وصف للمنافقين ،{ يلمزون} أي يعيبون وقتا بعد آخر ، وتكرر غمزهم ، لأنهم من{ المطوعين} أي المتطوعين ، وقلبت التاء طاء وأدغمت الطاء في الطاء ، والمتطوع هو المتصدق تطوعا ، وقد أدى الفريضة ، وإن هذا الإدغام قوى المعنى في اللفظ ، أي الذين يؤدون فيه أقصى التطوع ، فذو المال يتطوع بأقصى ما يمكن من التطوع لا يدخر ، والقل من المال يتبرع بمقدار جهده وطاقته ، وهم يعيبون من يتطوع بالكثير فيقولون يرائى ، ومن يتطوع بالقليل مما يقدر عليه يقولون ساخرين:الله غني عنه ، فهم عيابون لا يتبرعون ، ويعيبون من يتبرع ، ذا مال أو لم يكن ذا مال .
روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال:لما نزلت آية الصدقات كنا نحامل ( أي نحمل الحمل على ظهورنا بالأجرة ) ، فجاء رجل ، فتصدق بسخاء كثير فقالوا !يرائى ، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا:إن الله غنى عن صدقة هذا .
وروى الإمام أحمد رضي الله عنه عن أبي السليل عن أبيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع وهو يقول:"من يتصدق بصدقة أشهد له بها ، فجاء رجل لم أر أشد سوادا ولا أصغر منه- بناقة ساقها لم أر في البقيع ناقة أحسن منها ، فقال يا رسول الله:أصدقة ، قال عليه الصلاة والسلام:"نعم"قال الرجل:دونك هذه الناقة ، فلمزه رجل ، وقال:هذا يتصدق بهذه ، فوالله لهى خير منه ، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال:"كذبت هو خير منك ومنها"ثلاث مرات ، ثم قال:"ويل لأصحاب المئين من الإبل "ثلاثا ، قالوا:إلا من يا رسول الله ؟ ، قال:"إلا من قال بالمال هكذا وهكذا"وجمع بين كفيه عن يمينه ، وعن شماله ، قال وقد أفلح:"المزهد المجهد"، وفسرها ابن كثير المزهد في العيش المجهد في العبادة .
وتبرع عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم ، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه:أجننت أنت ! قال:ليس بي جنون ، هو مالي ثمانية آلاف درهم ، أقرضت الله منها أربعة آلاف ، وجعلت لعيالي أربعة آلاف ، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن المنافقين قالوا:ما تصدق إلا رياء .
وجاء رجل بصاعين من بر تبرع بصاع لنفسه صاعا ، فسخروا منه وقالوا:الله غني عن صدقته ، وهكذا كانوا يلمزون من يتصدق بالكثير ، ومن يتصدق بالقليل ، وذلك شأن المنافقين دائما يصغرون عمل غيرهم قليلا أو كثيرا ولا يعملون ، قبحهم الله تعالى .
وقال تعالى:{ والذين لا يجدون إلا جهدهم} الجهد:الطاقة أي الذين لا يجدون ما يتصدقون إلا بقدر طاقتهم المحدودة ، والجهد بفتح الجيم ، وضمها:الطاقة ، وفيها القراءاتان{[1255]} .
وظاهر القول أن{ الذين لا يجدون} معطوفة على{ المطوعين} ، ويكون المعنى أنهم يلمزون الذين ينفقون عن يسار ، وهذا هو المعطوف عليه ، والمعطوف بعد ذلك( الذين لا يجدون إلا طاقتهم ) ، فيسخرون من الفريقين ، يتهكمون على أهل اليسار برميهم أنهم يراءون ، وهكذا يرمون بدائهم ، فالمراءون هم المنافقون في كل الأحوال ، وخطر لي أن أقول:إن قوله تعالى:{ والذين لايجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم} ، فكأنهم يعيبون المتطوعين عن سعة ، ويسخرون من الذين لا يجدون إلا مقدار طاقتهم وهي محدودة ، و( الفاء ) هنا لأن الموصول في معنى الشرط ، والمعنى إن كان الذين لا يجدون يسخرون منهم .
ويقول سبحانه وتعالى:{ سخر الله منهم} ، أي أنهم يعاملون معاملة من يسخر منهم ، أو أن ذلك دعاء عليهم بأن يكونوا موضع السخرية والاستهزاء عندما يكشف أمرهم ، وتعرف حالهم .
وإن ذلك لهم خزي في الدنيا ، كالمنافق موضع سخرية حقيقة في الدنيا بتقلب قلوبهم وتناقضهم في أحوالهم دائما .
{ ولهم عذاب أليم} ،أي مؤلم أشد ما يكون الألم وحسبهم جهنم وبئس المهاد .