وهذه أيضا من صفات المنافقين:لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال ، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم ، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا:هذا مراء ، وإن جاء بشيء يسير قالوا:إن الله لغني عن صدقة هذا . كما قال البخاري:
حدثنا عبيد الله بن سعيد ، حدثنا أبو النعمان البصري ، حدثنا شعبة ، عن سليمان ، عن أبي وائل ، عن أبي مسعود قال:لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا ، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير ، فقالوا:مرائي . وجاء رجل فتصدق بصاع ، فقالوا:إن الله لغني عن صدقة هذا . فنزلت ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم ) الآية .
وقد رواه مسلم أيضا في صحيحه ، من حديث شعبة به .
وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد ، حدثنا الجريري ، عن أبي السليل قال:وقف علينا رجل في مجلسنا بالبقيع فقال:حدثني أبي - أو:عمي أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبقيع ، وهو يقول:من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة ؟ قال:فحللت من عمامتي لوثا أو لوثين ، وأنا أريد أن أتصدق بهما ، فأدركني ما يدرك ابن آدم ، فعقدت على عمامتي . فجاء رجل لم أر بالبقيع رجلا أشد سوادا [ ولا] أصغر منه ولا أدم ، ببعير ساقه ، لم أر بالبقيع ناقة أحسن منها ، فقال:يا رسول الله ، أصدقة ؟ قال:نعم ، فقال:دونك هذه الناقة . قال:فلمزه رجل فقال:هذا يتصدق بهذه فوالله لهي خير منه . قال:فسمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:كذبت بل هو خير منك ومنها ثلاث مرات ، ثم قال:ويل لأصحاب المئين من الإبل ثلاثا . قالوا:إلا من يا رسول الله ؟ قال:إلا من قال بالمال هكذا وهكذا ، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله ، ثم قال:قد أفلح المزهد المجهد ثلاثا:المزهد في العيش ، المجهد في العبادة .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية ، وقال:جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام ، فقال بعض المنافقين:والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء . وقالوا:إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع .
وقال العوفي ، عن ابن عباس:إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الناس يوما فنادى فيهم أن اجمعوا صدقاتكم . فجمع الناس صدقاتهم ، ثم جاء رجل من آخرهم بصاع من تمر ، فقال:يا رسول الله ، هذا صاع من تمر بت ليلتي أجر بالجرير الماء ، حتى نلت صاعين من تمر ، فأمسكت أحدهما ، وأتيتك بالآخر . فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينثره في الصدقات . فسخر منه رجال ، وقالوا:إن الله ورسوله لغنيان عن هذا . وما يصنعان بصاعك من شيء . ثم إن عبد الرحمن بن عوف قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:هل بقي أحد من أهل الصدقات ؟ فقال:لا ، فقال له عبد الرحمن بن عوف:فإن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات . فقال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:أمجنون أنت ؟ قال:ليس بي جنون . قال:فعلت ما فعلت ؟ قال:نعم ، مالي ثمانية آلاف ، أما أربعة آلاف فأقرضها ربي ، وأما أربعة آلاف فلي . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت . ولمزه المنافقون فقالوا:والله ما أعطى عبد الرحمن عطيته إلا رياء . وهم كاذبون ، إنما كان به متطوعا ، فأنزل الله - عز وجل - عذره وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر ، فقال تعالى في كتابه:( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) الآية .
وكذا روي عن مجاهد ، وغير واحد .
وقال ابن إسحاق:كان المطوعون من المؤمنين في الصدقات:عبد الرحمن بن عوف ، تصدق بأربعة آلاف درهم ، وعاصم بن عدي أخا بني العجلان ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغب في الصدقات ، وحض عليها ، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف ، وقام عاصم فتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوهما وقالوا:ما هذا إلا رياء . وكان الذي تصدق بجهده:أبو عقيل أخو بني أنيف الإراشي حليف بني عمرو بن عوف ، أتى بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة ، فتضاحكوا به وقالوا:إن الله لغني عن صاع أبي عقيل .
وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا طالوت بن عباد ، حدثنا أبو عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا . قال:فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال:يا رسول الله ، عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما ربي ، وألفين لعيالي . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت . وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر ، فقال:يا رسول الله ، أصبت صاعين من تمر:صاع أقرضه لربي ، وصاع لعيالي . قال:فلمزه المنافقون وقالوا:ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياء ! وقالوا:ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا ؟ فأنزل الله:( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم [ سخر الله منهم] ) الآية .
ثم رواه عن أبي كامل ، عن أبي عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه مرسلا قال:ولم يسنده أحد إلا طالوت .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير:حدثنا ابن وكيع ، حدثنا زيد بن الحباب ، عن موسى بن عبيدة ، حدثني خالد بن يسار ، عن ابن أبي عقيل ، عن أبيه قال:بت أجر الجرير على ظهري ، على صاعين من تمر ، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به ، وجئت بالآخر أتقرب [ به] إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته ، فقال:انثره في الصدقة . قال:فسخر القوم وقالوا:لقد كان الله غنيا عن صدقة هذا المسكين . فأنزل الله:( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) الآيتين .
وكذا رواه الطبراني من حديث زيد بن الحباب به . وقال:اسم أبي عقيل:حباب . ويقال:عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة .
وقوله:( فيسخرون منهم سخر الله منهم ) وهذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين ؛ لأن الجزاء من جنس العمل ، فعاملهم معاملة من سخر بهم ، انتصارا للمؤمنين في الدنيا ، وأعد للمنافقين في الآخرة عذابا أليما .