/م79
قال عز وجل:
{ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم} أي أولئك هم الذين يلمزون المتطوعين من المؤمنين ويعيبونهم في أمر الصدقات التي هي أظهر آيات الإيمان ، أو أعني بما ذكر من الذم الذين يلمزون المطوعين ويذمونهم من أخص فضائلهم التي تجرد أولئك المنافقون منها .فأصل «المطوعين » المتطوعين ، أدغمت التاء في الطاء ، فهي كالمطهرين بتشديد الطاء والمتطهرين .والتطوع في العبادة ما زاد على الفريضة ، والصدقات جمع صدقة تطلق على الأنواع والأفراد منها .وقوله:{ في الصدقات} كقوله:{ ومنهم من يلمزك في الصدقات} [ التوبة:58] ، ولكن اللمز هنالك في قسمتها وههنا في صفة أدائها ومقدارها والنية فيها كما يذكر في سبب النزول قريباً .وقال المفسرون إنه متعلق بيلمزون ، ولا يجوز تعلقه بالمطوعين للفصل بكونهم من المؤمنين ، وهذا الفصل ليس بأجنبي بل هو بيان للمطوعين ، ولكن التطوع واللمز كلاهما يتعديان بالباء لا بفي ، فلا بد من التقدير كما فعلت .والمتطوعين والمطوعة يطلق على الذين يتبرعون بالجهاد والغزو من تلقاء أنفسهم بدون أن يدعوهم الإمام أو السلطان لذلك بالتعيين ، وتكون نفقتهم من بيت المال ، هذا هو المعنى الاصطلاحي ، والمتطوعون بالحرب في هذا العصر تتولى نفقتهم إدارة العسكر من مال الحكومة ، إذ لا يمكنهم في النظام العسكري الحديث أن يتولوا أمر النفقة على أنفسهم .
والتطوع في أصل اللغة تكلف الطاعة أو الإتيان بما في الطوع من العمل ، وقد يطلق في اللغة على ما يعم الواجب ، كما قيل في تفسير آية السعي بين الصفا والمروة{ ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم} [ البقرة:158] ، واستعمل في القرآن والحديث بمعنى النفل أي الزيادة على الواجب .قال تعالى في آيات الصيام{ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ، فمن تطوع خيراً فهو خير له} [ البقرة:184] ، أي فمن زاد في الفدية على طعام مسكين واحد ، أو في الصيام على شهر رمضان فهو خير له ، وفي حديث الأعرابي المستفيض في كتب الفقه أن النبي صلى الله عليه وسلم عند ما ذكر له الصلوات الخمس وصيام رمضان وشرائع الإسلام وسأله هل عليه غيرها ؟ قال له صلى الله عليه وسلم( لا ، إلا أن تطوع ){[1616]} أي تتطوع وتتبرع من تلقاء نفسك .
ولا يظهر كون التطوع هنا بمعنى التبرع بالغزو ، إذ الكلام خاص بغزوة تبوك ، وقد تقدم أن النفر إليها كان واجباً على كل من قدر عليه ؛ لأن الله قد استنفر المؤمنين لها .ووبخ المتثاقلين عنها ، وقال:{ انفروا خفاقاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} [ التوبة:41] ، ولكن يصح أن يكون المراد بالمطوعين ما يدل عليه المعنى اللغوي العام وهم الذين نفروا للجهاد بأموالهم وأنفسهم طاعة لله ولرسوله من غير أن يكره أحد منهم على ذلك ، أو يطلب بشخصه له .وأظهر منه أن يراد هنا التطوع بالصدقات ، وهو المختار عندنا ، على أن اللمز واقع في شأنها وما يتعلق بصفتها ومقدارها ، لا متعلق بها نفسها ، وهو الواقع المعقول ، والمنقول في سبب النزول الآتي .
والذين لا يجدون إلا جهدهم} أي ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم ، والجهد بالضم والفتح الطاقة وهي أقصى ما يستطيعه الإنسان ، مأخوذ من طاقة الحبل وهي الفتلة الواحدة ، والفتيل من الفتل التي يتألف منها ، وتسمى قوة وجمعها قوى كما بيناه في تفسير{ وعلى الذين يطيقونه فدية} [ البقرة:184] من آيات الصيام .والمراد بهم الفقراء الذين تصدقوا بقليل هو مبلغ جهدهم وآخر طاقتهم ، وعطفهم على المطوعين من عطف الخاص على العام تنويهاً بهم ، لأن مجال لمزهم وعيبهم عند المنافقين أوسع ، والسخرية منهم في عرفهم أشد ، وإن كانوا أجدر بالثناء والإكبار عند المؤمنين ، ولذلك قيل:إنهم هم المراد بقوله تعالى:{ فيسخرون منهم} ، أي يستهزؤون بهم احتقاراً لما جاؤوا به ، وعدَّا له من الحماقة والجنون في الدين ، وقيل:إنه عام يشمل المكثرين والمقلين .
قال تعالى في بيان جزاء هؤلاء اللامزين الساخرين{ سخر الله منهم ولهم عذاب أليم} هذا التعبير يسمى مشاكلة ، وما هو إلا العدل في جزاء المماثلة ، أي جزاهم بمثل ذنبهم فجعلهم سخرية للمؤمنين وللناس أجمعين ، بفضيحته لهم في هذه السورة ببيان هذا الخزي وغيره من مخازيهم وعيوبهم ، ولهم فوقه عذاب أليم تقدم بيانه في هذا السياق بهذا اللفظ وغيره .
لا يتجلى المراد من هذه الآية إلا ببيان ما نزلت فيه ومن نزلت فيهم ، وقد روي فيه عدة روايات في الصحاح والسنن والتفسير المأثور:
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال:لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل ، فجاء أبو عقيل بنصف صاع ، وجاء إنسان بأكثر منه ، فقال المنافقون:إن الله غني عن صدقة هذا ، وما فعل الآخر هذا إلا رياء .فنزلت{ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم}{[1617]} [ التوبة:79] الآية .
هذا لفظ البخاري في كتاب التفسير ، وقال في الزكاة:لما نزلت آية الصدقة{[1618]} .الخ ، وفي رواية:كنا نتحامل على ظهورنا .قال الحافظ في تفسير «نتحامل » من فتح الباري:أي يحمل بعضنا لبعض بالأجرة .وقال صاحب المحكم:تحامل في الأمر تكلفه على مشقة ، ومنه تحامل على فلان أي كلفه ما لا يطيق ، وذكر الروايات في ذلك بما نختاره على ما جمعه السيوطي في الدر المنثور لبيان طرقه وصفته ، فقال:
وروى البزار من طريق عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثاً ) ، قال:فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال:يا رسول الله عندي أربعة آلاف:ألفين أقرضهما ربي ، وألفين أمسكهما لعيالي ، فقال:( بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت ) .قال:وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر .الحديث .
قال البزار:لم يسنده إلا طالوت بن عباد عن أبي عوانة عن عمر ، قال:وحدثناه أبو كامل عن أبي عوانة فلم يذكر أبا هريرة فيه ، وكذلك أخرجه عبد بن حميد عن يونس بن محمد عن أبي عوانة ، وأخرجه ابن أبي حاتم والطبري وابن مردويه من طرق أخرى عن أبي عوانة مرسلاً ، وذكره ابن إسحاق في المغازي بغير إسناد .وأخرجه الطبري من طريق يحيى بن أبي كثير ، ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة والمعنى واحد قال:وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة -يعني في غزوة تبوك- فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقال:يا رسول الله مالي ثمانية آلاف جئتك بنصفها وأمسكت نصفها ، فقال:( بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت ) ، وتصدق يومئذ عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر ، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر .الحديث .
وكذا أخرجه الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه ، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال:جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب بمعناه .
وعند عبد بن حميد وابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس قال:جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعمائة أوقية من ذهب فقال:إن لي ثمانمائة أوقية من ذهب .الحديث .
وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة فقال:ثمانية آلاف دينار ، ومثله لابن أبي حاتم من طريق مجاهد ، وحكى عياض في الشفاء أنه جاء يومئذ بتسعمائة بعير .
وهذا اختلاف شديد في القدر الذي أحضره عبد الرحمن بن عوف ، وأصح الطرق فيه ثمانية آلاف درهم ، وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أو غيره والله أعلم .
ووقع في معاني الفراء أن النبي صلى الله عليه وسلم حث الناس على الصدقة فجاء عمر بصدقة ، وعثمان بصدقة عظيمة ، وبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -يعني عبد الرحمن بن عوف- ثم جاء أبو عقيل بصاع من تمر ، فقال المنافقون:ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رياء .وأما أبو عقيل:فإنما جاء بصاعه ليذكر بنفسه ، فنزلت .ولابن مردويه من طريق أبي سعيد فجاء عبد الرحمن بن عوف بصدقته ، وجاء المطوعون من المؤمنين الحديث اه .