/م79
ثم بين تعالى عقابهم الخاص بأمر الدين ، بما جعل حكمهم في ذنوبهم حكم الكافرين ، فقال:{ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} هذه الآية بمعنى آية سورة المنافقين{ سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين} [ المنافقون:6] ،وفيها زيادة تأكيد بذكر السبعين مرة ، والتصريح بأن سبب عدم المغفرة هو الكفر الخ ، وعدد السبعين يستعمل بمعنى الكثرة المطلقة في عرف العرب ، فليس المراد به هذا العدد بعينه ، بل المعنى مهما تكثر من الاستغفار فلن يستجاب لك فيهم ، وحسنت هذه الزيادة فيها لتأخر نزولها ، فهي أمر معناه الخبر ، كما قال الجمهور ، تقديره:الاستغفار لهؤلاء المنافقين المعينين وعدمه سيان ، فلن يغفر الله لهم وإن كثر الاستغفار .
والظاهر أنه كان صلى الله عليه وسلم يستغفر لهم رجاء أن يهديهم الله تعالى فيتوب عليهم ويغفر لهم ، كما كان يدعو للمشركين كلما اشتد إيذاؤهم له ، ويقول:( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) رواه ابن حبان في صحيحه من حديث سهل بن سعد ، وروى مثله الشيخان من حديث ابن مسعود قال:كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول ، وذكره .وفي مسلم:( رب اغفر ) الخ .قال بعض العلماء:إنه صلى الله عليه وسلم يعني نفسه حين شجوا رأسه في أحد ، فهو الحاكي والمحكي عنه .والاستغفار للمشركين في جملتهم لا يدخل في معنى قوله تعالى الآتي في هذه السورة{ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} [ التوبة:113] ؛ لأن النهي هنا عن الاستغفار لمن تبين للنبي أنه من أصحاب الجحيم ، ولا سيما بعد الموت على الشرك ، لا للأحياء غير المعينين ، وهؤلاء المنافقون المعنيون هنا من هذا القبيل لأنهم هم المعينون الذين أخبره الله بكفرهم فيما تقدم وفيما سيأتي ، ولذلك بين سبب عدم مغفرته لهم بقوله:
{ ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله} أي ذلك الامتناع من المغفرة بسبب كفرهم بالله ورسوله ، فهم لا يوقنون بما وصف به نفسه من العلم بسرهم ونجواهم وبسائر الغيوب ، ولا بوحية لرسوله وما أوجبه من اتباعه ، ولا ببعثه للموتى وحسابهم وجزائهم ، وليس سببه عدم الاعتداد باستغفارك أيها الرسول لهم ، فإن شرط قبوله مع قابلية المغفرة وضعه في موضعه ، وهو ما سبق في سورة النساء{ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} [ النساء:64] ، يعني أن المغفرة إنما وعد بها التائبون المستغفرون من ذنوبهم إذا استغفرت لهم .وهؤلاء كفار في باطنهم ، مصرون على كفرهم ، فاسقون عن أمر ربهم .
{ والله لا يهدي القوم الفاسقين} أي جرت سنته في الراسخين في فسوقهم وتمردهم المصرين على نفاقهم ، الذين أحاطت بهم خطاياهم أن يفقدوا الاستعداد للتوبة والإيمان ، فلا يهتدون إليهما سبيلاً ، وتقدم وصفهم بهذا الفسوق في الآية [ 67] ، ومثل هذه الجملة بنصها في الآية [ 37] من هذه السورة .
وقد ذكر الرازي وتبعه الألوسي في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنه أنه لما نزل قوله تعالى:{ سخر الله منهم} سأله عليه الصلاة والسلام اللامزون الاستغفارَ لهم فهمّ أن يفعل ، فنزلت فلم يفعل .وقيل:نزلت بعد أن فعل .واختار الرازي عدمه لأنه لا يجوز الاستغفار للكافر .وفي التعليل بحث:وهو أن من ظاهره الإسلام كالمنافقين لا يحكم بكفره إلا بوحي من الله تعالى ، أو صدور ما يدل على الكفر دلالة قطعية ، ولمز المطوعين ليس منه .على أن طلبهم الاستغفار إظهار للتوبة .وهذه الرواية لم نرها في كتب التفسير المأثور فلا ندري من أين جاء بها الرازي ، وهو لم يعزها إلى أحد من المحدثين ولا من رواة التفسير كعادته ، وهي معارضة بما ورد في سبب نزولها من أنه الاستغفار لعبد الله بن أبي رئيس المنافقين وزعيمهم .روى هذا بعض رواة التفسير المأثور عن ابن عباس وعروة والشعبي والسدي فيراجع في الدر المنثور ، وسنبين ذلك وما فيه من المباحث والإشكال بعد تفسير قوله تعالى:{ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} [ التوبة:84] وما هو ببعيد .