قوله تعالى:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [ 26-28] .
يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين ،وكذب الآخر ؛لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الاستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب ؛لأن كون القميص مشقوقاً من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها ،وهي تنوشه من خلفه ،ولكنه تعالى بين في موضع آخر أن محل العمل بالقرينة ما لم تعارضها قرينة أقوى منها ،فإن عارضتها قرينة أقوى منها أبطلتها ،وذلك في قوله تعالى:{وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}] يوسف:18] ؛لأن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب ،جعلوا على قميصه دم سخلة ؛ليكون وجود الدم على قميصه قرينة على صدقهم في دعواهم أنه أكله الذئب .
ولا شك أن الدم قرينة على افتراس الذئب له ،ولكن يعقوب أبطل قرينتهم هذه بقرينة أقوى منها ،وهي عدم شق القميص ،فقال: سبحان الله !متى كان الذئب حليماً كيساً يقتل يوسف ولا يشق قميصه .ولذا صرح بتكذيبه لهم في قوله:{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [ يوسف:18] .
وهذه الآيات المذكورة أصل في الحكم بالقرائن .
ومن أمثلة الحكم بالقرينة: الرجل يتزوج المرأة من غير أن يراها سابقاً ؛فتزفها إليه ولائد لا يثبت بشهادتهن أن هذه هي فلانة التي وقع عليها العقد .فيجوز له جماعها من غير احتياج إلى بينة تشهد على عينها أنها هي التي وقع العقد عليها ؛اعتماداً على قرينة النكاح .
وكالرجل ينزل ضيفاً عند قوم ،فتأتيه الوليدة أو الغلام بالطعام ؛فيجوز له الأكل من غير احتياج إلى ما يثبت إذن مالك الطعام له في الأكل ،اعتماداً على القرينة .
وكقول مالك ،ومن وافقه: إن من شم في فيه ريح الخمر يحد حد الشارب ،اعتماداً على القرينة ،لأن وجود ريحها في فيه قرينة على أنه شربها ،وكمسائل اللوث وغير ذلك .
وقد قدمنا في سورة المائدة صحة الاحتجاج بمثل هذه القرائن ،وأوضحنا بالأدلة القرآنية .أن التحقيق أن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا شرع لنا ،إلا بدليل على النسخ غاية الإيضاحوالعلم عند الله تعالى .
وقال القرطبيفي تفسير قوله تعالى:{وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [ يوسف: 18] .استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل من الفقه ،كالقسامة وغيرها .
وأجمعوا على أن يعقوبعليه السلاماستدل على كذبهم بصحة القميص .
وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت ،فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح ،وهي قوة التهمة ،ولا خلاف في الحكم بها ،قاله ابن العربي .اه كلام القرطبي .
واختلف العلماء في الشاهد في قوله:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا} .
فقال بعض العلماء: هو صبي في المهد ،وممن قال ذلك ابن عباس ،والضحاك ،وسعيد بن جبير .
وعن ابن عباس أيضاًأنه رجل ذو لحية ،ونحوه عن الحسين .
وعن زيد بن أسلمأنه ابن عم لها كان حكيماً ،ونحوه عن قتادة وعكرمة .
وعن مجاهدأنه ليس بإنسي ولا جان ،هو خلق من خلق الله .
قال مقيدهعفا الله عنه:
قول مجاهد هذا يرده قوله تعالى:{مّنْ أَهْلِهَا} ،لأنه صريح في أنه إنسي من أهل المرأة .وأظهر الأقوال: أنه صبي ،لما رواه أحمد ،وابن جرير ،والبيهقي في الدلائل ،عن ابن عباس رضي الله عنهما ،عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة فرعون ،وشاهد يوسف ،وصاحب جريج ،وعيسى ابن مريم » اه .