قوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن كل عامل سواء كان ذكراً أو أنثى ،عمل عملاً صالحاً ،فإنه جل وعلا يقسم ليحيينه حياة طيبة ،وليجزينه أجره بأحسن ما كان يعمل .
اعلم أولاًأن القرآن العظيم دل على أن العمل الصالح هو ما استكمل ثلاثة أمور:
الأول:موافقته لما جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم ؛لأن الله يقول:{وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} [ الحشر: 7] .
الثاني:أن يكون خالصاً لله تعالى ؛لأن الله جل وعلا يقول:{وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [ البينة: 5] ،{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ} .
الثالث:أن يكون مبنياً على أساس العقيدة الصحيحة ؛لأن الله يقول:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ،فقيَّد ذلك بالإيمان ،ومفهوم مخالفته أنه لو كان غير مؤمن لما قبل منه ذلك العمل الصالح .
وقد أوضح جل وعلا هذا المفهوم في آيات كثيرة ،كقوله في عمل غير المؤمن:{وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [ الفرقان:23] ،وقوله:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ في الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [ هود: 16] ،وقوله:{أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [ النور: 39] الآية ،وقوله:{أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [ إبراهيم: 18] ،إلى غير ذلك من الآيات .
واختلف العلماء في المراد بالحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة .
فقال قوم: لا تطيب الحياة إلا في الجنة ،فهذه الحياة الطيبة في الجنة ؛لأن الحياة الدنيا لا تخلو من المصائب والأكدار ،والأمراض والآلام والأحزان ،ونحو ذلك .وقد قال تعالى:{وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِي الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [ العنكبوت: 64] .والمراد بالحيوان: الحياة .
وقال بعض العلماء: الحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة في الدنيا ،وذلك بأن يوفق الله عبده إلى ما يرضيه ،ويرزقه العافية والرزق الحلال .كما قال تعالى:{رَبَّنَآ ءَاتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [ البقرة: 201] .
قال مقيده عفا الله عنه: وفي الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بالحياة الطيبة في الآية: حياته في الدنيا حياة طيبة .وتلك القرينة هي أننا لو قدرنا أن المراد بالحياة الطيبة: حياته في الجنة في قوله:{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواةً طَيِّبَةً} ،صار قوله:{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ،تكراراً معه ؛لأن تلك الحياة الطيبة هي أجر عملهم ،بخلاف ما لو قدرنا أنها في الحياة الدنيا ؛فإنه يصير المعنى: فلنحيينه في الدنيا حياة طيبة ،ولنجزينه في الآخرة بأحسن ما كان يعمل ،وهو واضح .
وهذا المعنى الذي دل عليه القرآن تؤيِّده السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت .وقد روي عن ابن عباس وجماعة: أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب .وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه فسرها بالقناعة ،وكذا قال ابن عباس وعكرمة ،ووهب بن منبهإلى أن قالوقال الضحاك: هي الرزق الحلال ،والعبادة في الدنيا .وقال الضحاك: هي الرزق الحلال ،والعبادة في الدنيا .وقال الضحاك أيضاً:هي العمل بالطاعة والانشراح بها .
والصحيح:أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله .كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد ،حدثنا سعيد بن أبي أيوب ،حدثني شرحبيل بن شريك ،عن أبي عبد الرحمن الحبلي ،عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً ،وقنعه الله بما آتاه » .ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقرى به .وروى الترمذي والنسائي من حديث أبي هانئ ؛عن أبي علي الجنبي ،عن فضالة بن عبيد: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قد أفلح من هدي إلى الإسلام ،وكان عيشه كفافاً وقنع به » وقال الترمذي: هذا حديث صحيح .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد ،حدثنا همام عن يحيى عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة .وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا ،حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيراً » انفرد بإخراجه مسلم اه من ابن كثير .
وهذه الأحاديث ظاهرة في ترجيح القول: بأن الحياة الطيبة في الدنيا ؛لأن قوله صلى الله عليه وسلم: «أفلح » ،يدل على ذلك ؛لأن من نال الفلاح نال حياة طيبة .وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «يعطى بها في الدنيا » ،يدل على ذلك أيضاً .وابن كثير إنما ساق الأحاديث المذكورة لِيُنَبِّهَ على أنها ترجح القول المذكور .والعلم عند الله تعالى .
وقد تقرر في الأصول: أنه إذا دار الكلام بين التوكيد والتأسيس ،رجح حمله على التأسيس: وإليه أشار في مراقي السعود ،جامعاً له مع نظائر يجب فيها تقديم الراجح من الاحتمالين ،بقوله:
كذاك ما قابل ذا اعتلال*** من التأصل والاستقلال
ومن تأسس عموم وبقا ***الأفراد والإطلاق مما ينتقى
كذاك ترتيب لإيجاب العمل ***بماله الرجحان مما يحتمل
ومعنى كلام صاحب المراقي: أنه يقدم محتمل اللفظ الراجح على المحتمل المرجوح ،كالتَّأصل ،فإنه يقدم على الزيادة: نحو:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ} [ الشورى: 11] ،يحتمل كون الكاف زائدة ،ويحتمل أنها غير زائدة .والمراد بالمثل: الذات ؛كقول العرب: مثلك لا يفعل هذا .يعنون أنت لا ينبغي لك أن تفعل هذا .فالمعنى: ليس كالله شيء .ونظيره من إطلاق المثل وإرادة الذات:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [ الأحقاف: 10] ،أي: على نفس القرآن لا شيء آخر مماثل له ،وقوله:{كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [ الأنعام: 122] ،أي: كمن هو في الظلمات .وكالاستقلال ،فإنه يقدَّم على الإضمار ؛كقوله تعالى:{أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ} [ المائدة: 33] الآية .فكثير من العلماء يضمرون قيوداً غير مذكورة فيقولون: أن يقتلوا إذا قتلوا ،أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال ،أو تقطع أيديهم وأرجلهم إذا أخذوا المال ولم يقتلوا ..الخ .
فالمالكية يرجحون أن الإمام مخير بين المذكورات مطلقاً ؛لأن استقلال اللفظ أرجح من إضمار قيود غير مذكورة ؛لأن الأصل عدمها حتى تثبت بدليل ؛كما أشرنا إليه سابقاً ( في المائدة ) ،وكذلك التأسيس يقدم على التأكيد ،وهو محل الشاهد ؛كقوله:{فَبِأَي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} ( في سورة الرحمن ) ،وقوله:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} ( في المرسلات ) .قيل: تكرار اللفظ فيهما توكيد ،وكونه تأسيساً أرجح لما ذكرنا ؛فتحمل الآلاء في كل موضع على ما تقدم .قيل: لفظ ذلك التكذيب فلا يتكرر منها لفظ .وكذا يقال ( في سورة المرسلات ) فيحمل على المكذبين بما ذكر ،قيل: كل لفظ الخ .فإذا علمت ذلك فاعلمأنا إن حملنا الحياة الطيبة في الآية على الحياة الدنيا كان ذلك تأسيساً .وإن حملناها على حياة الجنة ،تكرر ذلك مع قوله بعده:{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم} الآية ؛لأن حياة الجنة الطيبة هي أجرهم الذي يجزونه .
وقال أبو حيان ( في البحر ): والظاهر من قوله تعالى:{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواةً طَيِّبَةً} ،أن ذلك في الدنيا ؛وهو قول الجمهور .ويدل عليه قوله:{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم} ،يعني: في الآخرة .