قوله تعالى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أهلك كثيراً من القرون من بعد نوح .لأن لفظة{كَمْ} في قوله{وَكَمْ أَهْلَكْنَا} خبرية ،معناها الإخبار بعدد كثير .وأنه جل وعلا خبير بصير بذنوب عباده .وأكد ذلك بقوله{وَكَفَى بِرَبِّكَ} الآية .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة أوضحته آيات أخر من أربع جهات:
الأولىأن في الآية تهديداً لكفار مكة ،وتخويفاً لهم من أن ينزل بهم ما نزل بغيرهم من الأمم التي كذبت رسلها ؛أي أهلكنا قروناً كثيرة من بعد نوح بسبب تكذيبهم الرسل ،فلا تكذبوا رسولنا لئلا نفعل بكم مثل ما فعلنا بهم .
والآيات التي أوضحت هذا المعنى كثيرة .كقوله في قوم لوط{وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِين َوَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [ الصافات: 137-138] ،وكقوله فيهم أيضاً:{إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} [ الحجر: 75-76] ،وقوله فيهم أيضاً:{وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [ العنكبوت: 35] ،وقوله:{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [ محمد:10] ،وقوله بعد ذكره جل وعلا إهلاكه لقوم نوح ،وقوم هود ،وقوم صالح ،وقوم لوط ،وقوم شعيب في سورة الشعراء:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} [ الشعراء: 8] ،وقوله في قوم موسى:{إِنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى} [ النازعات: 26] ،وقوله:{إِنَّ في ذالِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ} [ هود: 103] الآية ،وقوله:{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ} [ الدخان: 37] ،إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة عل تخويفهم بما وقع لمن قبلهم .
الجهة الثانيةأن هذه القرون تعرضت لبيانها آيات أخر .فبينت كيفية إهلاك قوم نوح ،وقوم هود ،وقوم صالح ،وقوم لوط ،وقوم شعيب ،وفرعون وقومه من قوم موسى ،وذلك مذكور في مواضع متعددة معلومة من كتاب الله تعالى .وبين أن تلك القرون كثيرة في قوله:{وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَالِكَ كَثِيراً} [ الفرقان: 38] وبين في موضع آخر: أن منها ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا ،وذلك في قوله في سورة إبراهيم{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ} [ إبراهيم: 9] الآية .وبين في موضعين آخرين أن رسلهم منهم من قص خبره على نبينا صلى الله عليه وسلم ،ومنهم من لم يقصصه عليه .وهما قوله في سورة النساء:{وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [ النساء: 164] ،وقوله في سورة المؤمن:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِي بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [ غافر: 78] الآية .
الجهة الثالثةأن قوله{مِن بَعْدِ نُوحٍ} [ الإسراء: 17] يدل على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح أنها على الإسلام ؛كما قال ابن عباس: كانت بين آدم ونوح عشرة قرون ،كلهم على الإسلامنقله عنه ابن كثير في تفسير هذه الآية .
وهذا المعنى تدل عليه آيات أخر .كقوله{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [ البقرة: 213] الآية ،وقوله .{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ} [ يونس: 19] الآية ؛لأن معنى ذلك على أصح الأقوال أنهم كانوا على طريق الإسلام ،حتى وقع ما وقع من قوم نوح من الكفر ؛فبعث الله النَّبيين ينهون عن ذلك الكفر ،مبشرين من أطاعهم بالجنة ،ومنذرين من عصاهم بالنار .وأولهم في ذلك نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .
ويدل على هذا قوله:{إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} [ النساء: 163] الآية .وفي أحاديث الشفاعة الثابتة في الصحاح وغيرها أنهم يقولون لنوح: إنه أول رسول بعثه الله لأهل الأرض كما قدمنا ذلك في سورة البقرة .
الجهة الرابعةأن قوله{وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا} [ الإسراء: 17] فيه أعظم زجر عن ارتكاب ما لا يرضي الله تعالى .
والآيات الموضحة لذلك كثيرة جداً .كقوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ ق: 16] وقوله:{أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ،وقوله:{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا في أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [ البقرة: 235] الآية ،إلى غير ذلك من الآيات .وقد قدمنا هذا المبحث موضحاً في أول سورة هود .ولفظة «كم » في هذه الآية الكريمة في محل نصب مفعول به «لأهلكنا » و{مِنْ} في قوله{مّنَ الْقُرُونِ} بيان لقوله{كَمْ} وتمييز له كما يميز العدد بالجنس .وأما لفظه «من » في قوله{مِن بَعْدِ نُوحٍ} [ الإسراء: 17] فالظاهر أنها لابتداء الغاية ،وهو الذي اختاره أبو حيان في «البحر » .وزعم الحوفي أن «من » الثانية بدل من الأولى ،ورده عليه أبو حيان .والعلم عند الله تعالى .