قوله تعالى:{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً 47} الآية .
قوله «ويوم » منصوب باذكر مقدراً .أو بفعل القول المحذوف قبل قوله:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} أي قلنا لهم يوم نسير الجبال: لقد جئتمونا فرادى .وقول من زعم أن العامل فيه «خير » يعني والباقيات الصالحات خير يوم نسير الجبالبعيد جداً كما ترى .
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن يوم القيامة يختل فيه نظام هذا العام الدنيوي ،فتسير جباله ،وتبقى أرضه بارزة لا حجر فيها ولا شجر ،ولا بناء ولا وادي ولا علمذكره في مواضع أخر كثيرة ،فذكر أنه يوم القيامة يحمل الأرض والجبال من أماكنهما ،ويدكهما دكة واحدة ،وذلك في قوله:{فَإِذَا نُفِخَ في الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ 13 وَحُمِلَتِ الأرض وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً 14 فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ 15} الآية .
وما ذكره من تسيير الجبال في هذه الآية الكريمة ذكره أيضاً في مواضع أخر ،كقوله:{يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْراً 9 وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً 10} ،وقوله:{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً 20} ،وقوله:{وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ 3} ،وقوله:{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} الآية .
ثم ذكر في مواضع أخرأنه جل وعلا يَفتتها حتى تذهب صلابتها الحجرية وتلين ،فتكون في عدم صلابتها ولينها كالعهن المنفوش ،وكالرمل المتهايل ،كقوله تعالى:{يَوْمَ تَكُونُ السماء كَالْمُهْلِ 8 وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ 9} ،وقوله تعالى:{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث 4 ِوَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} والعهن: الصوف .وقوله تعالى:{يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً} ،وقوله تعالى:{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً 5} أي فتتت حتى صارت كالبسيسة ،وهي دقيق ملتوت بسمن ،على أشهر التفسيرات .
ثم ذكر جل وعلا ب أنه يجعلها هباء وسراباً ؛قال:{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّا 5 ًفَكَانَتْ هباء مُّنبَثّاً 6} ،وقال:{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً 20} .
وبين في موضع آخرأن السراب عبارة عن لا شيء ؛وهو قوله{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}إلى قوله{لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} .
وقوله:{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} قرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو «تسير الجبال » بالتاء المثناة الفوقية وفتح الياء المشددة من قوله «تسير » مبيناً للمفعول .و{الْجِبَالُ} بالرفع نائب فاعل{تسير} والفاعل المحذوف ضمير يعود إلى الله جل وعلا .وقرأه باقي السبعة «نسير » بالنون وكسر الياء المشددة مبنياً للفاعل ،و«الجبال » منصوب مفعول به ،والنون في قوله «نسير » التعظيم .
وقوله في هذه الآية الكريمة:{وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} البروز: الظهور ؛أي ترى الأرض ظاهرة منكشفة لذهاب الجبال والظراب والآكام ،والشجر والعمارات التي كانت عليها .وهذا المعنى الذي ذكره هنابينه أيضاً في غير هذا الموضع ؛كقوله تعالى:{وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا ربّي نَسْفاً 105 فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً 106 لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً 107} .وأقوال العلماء في معنى ذلك راجعة إلى شيء واحد ،وهو أنها أرض مستوية لا نبات فيها ،ولا بناء ولا ارتفاع ولا انحدار .وقول من قال: إن معنى{وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} أي بارزاً ما كان في بطنها من الأموات والكنوزبعيد جداً كما ترى .وبروز ما في بطنها من الأموات والكنوز دلت عليه آيات أخر ؛كقوله تعالى:{وَإِذَا الأرض مُدَّتْ 3 وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ 4} ،وقوله تعالى:{أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا في الْقُبُورِ 9 وَحُصِّلَ مَا في الصُّدُورِ 10} ،وقوله:{وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا 2} ،وقوله:{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ 4} .
وقوله في هذه الآية الكريمة:{بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ} أي جمعناهم للحساب والجزاء .وهذا الجمع المعير عنه بالحشر هناجاء مذكوراً في آيات أخر ،كقوله تعالى:{قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين 49 َلَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ 50} ،وقوله تعالى:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} الآية ،وقوله تعالى:{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} ،وقوله تعالى:{ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ 103} .وقوله:{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} الآية ،إلى غير ذلك من الآيات .
وبين في مواضع آخرأن هذا الحشر المذكور شامل للعقلاء وغيرهم من أجناس المخلوقات ،وهو قوله تعالى:{وَمَا مِن دَآبَّةٍ في الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِن شيء ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ 38} .
وقوله في هذه الآية الكريمة:{فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً 47} أي لم نترك .والمغادرة: الترك ؛ومنه الغدر .لأنه ترك الوفاء والأمانة .وسمي الغدير من الماء غديراً ،لأن السيل ذهب وتركه .ومن المغادرة بمعنى الترك قول عنترة في مطلع معلقته:
هل غادر الشعراء من متردم *** أم هل عرفت الدار بعد توهم
وقوله أيضاً:
غادرته متعفراً أوصاله *** والقوم بين مجرح ومجدل
وما ذكره في هذه الآية الكريمةمن أنه حشرهم ولم يترك منهم أحداًجاء مبيناً في مواضع أخر ،كقوله:{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} الآية ،ونحوها من الآيات ،لأن حشرهم جميعاً هو معنى أنه لم يغادر منهم أحداً .