قوله تعالى:{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً 62} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المؤمنين إذا أدخلهم ربهم جنات عدن التي وعدهم{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا} أي في الجنات المذكورة{لَغْواً} أي كلاماً تافهاً ساقطاً كما يسمع في الدنيا .واللغو: هو فضول الكلام ،وما لا طائل تحته .ويدخل فيه فحش الكلام وباطله ،ومنه قول رؤبة وقيل العجاج:
ورب أسراب حجيج كظم *** عن اللّغا ورفث التكلم
كما تقدم في سورة «المائدة » .
والظاهر أن قوله{إِلاَّ سَلَاماً} استثناء منقطع ،أي لكن يسمعون فيها سلاماً ،لأنهم يسلم بعضهم على بعض ،وتسلم عليهم الملائكة ،كما يدل على ذلك قوله تعالى:{تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ 23} ،وقوله:{وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ 23 سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} الآية .كما تقد بمستوفى .
وهذا المعنى الذي أشار له هنا جاء في غير هذا الموضع أيضاً كقوله في «الواقعة »:{لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً 25 إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً 26} وقد جاء الاستثناء المنقطع في آيات أخر من كتاب الله ،كقوله تعالى:{مَّا لَهُمْ مّنَ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنّ} الآية: وقوله:{وَمَا لأحد عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى 19 إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى 20} ،وقوله:{لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأولى} ،وكقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} الآية ،إلى غير ذلك من الآيات .فكل الاستثناءات المذكورة في هذه الآيات منقطعة .ونظير ذلك من كلام العرب في الاستثناء المنقطع قول نابغة ذبيان:
وقفت فيها أصيلاً لا أسائلها *** عيت جواباً وما بالربّع من أحد
إلا الأواري لأباً ما أبينها والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
«فالأواري » التي هي مرابط الخيل ليست من جنس «الأحد » .وقول الفرزدق:
وبنت كريم قد نكحنا ولم يكن *** لها خاطب إلا السنان وعامله
وقول جران العود:
وبلدة ليس بها أنيس *** إلا اليعافير وإلا العيس
«فالسنان » ليس من جنس «الخاطب » و«اليعافير والعيس » ليس واحد منهما من جنس «الأنيس » .وقول ضرار بن الأزور:
أجاهد إذ كان الجهاد غنيمة *** ولله بالعبد المجاهد أعلم
عشية لا تغني الرماح مكانها *** ولا النل إلا المشرفيّ المصمم
وبهذا الذي ذكرنا تعلم صحة وقوع الاستثناء المنقطع كما عليه جماهير الأصوليين خلافاً للإمام أحمد بن حنبل وبعض الشافعية القائلين: بأن الاستثناء المنقطع لا يصح ،لأن الاستثناء إخراج ما دخل في اللفظ ،وغير جنس المستثنى منه لم يدخل في اللفظ أصلاً حتى يخرج بالاستثناء .
تنبيهات
الأولاعلم أن تحقيق الفرق بين الاستثناء المتصل والمنقطع يحصل بأمرين يتحقق بوجودهما أن الاستثناء متصل .وإن اختل واحد منهما فهو منقطع: الأولأن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه ،نحو: جاء القوم إلا زيداً .فإن كان من غير جنسه فهو منقطع ،نحو: جاء القوم إلا حماراً .والثانيأن يكون الحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه .ومعلوم أن نقيض الإثبات النفي كالعكس .ومن هنا كان الاستثناء من النفي إثباتاً ،ومن الإثبات نفياً .فإن كان الحكم على المستثنى ليس نقيض الحكم على المستثنى منه فهو منقطع ولو كان المستثنى من جنس المستثنى منه .فقوله تعالى:{لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأولى} استثناء منقطع على التحقيق ،مع أن المستثنى من جنس المستثنى منه .وكذلك قوله:{لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} وإنما كان منقطعاً في الآيتين لأنه لم يحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه .فنقيض:{لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ}: هو يذوقون فيها الموت .وهذا النقيض الذي هو ذوق الموت في الآخرة لم يحكم به على المستثنى بل حكم بالذوق في الدنيا .ونقيض{لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} كلوها بالباطل ولم يحكم به في المستثنى .
فتحصل أن انقطاع الاستثناء قسمان: أحدهما بالحكم على غير جنس المستثنى منه .كقولك: رأيت أخويك إلا ثوباً .الثاني: بالحكم بغير النقيض .نحو: رأيت أخويك إلا زيداً لم يسافر .
التنبيه الثاني
اعلم أنه يبنى على الخلاف في صحة الاستثناء المنقطع بعض الفروع الفقهية .فلو أقر رجل لآخر فقال له: علي ألف دينار إلا ثوباً .فعلى القول بعدم صحة الاستثناء المنقطع يكون قوله «إلا ثوباً » لغواً وتلزمه الألف كاملة .وعلى القول بصحة الاستثناء المنقطع لا يلغى قوله «إلا ثوباً » وتسقط قيمة الثوب من الألف .والذين قالوا تسقط قيمته اختلفوا في توجيهه على قولين: أحدهماأنه مجاز ،وأنه أطلق الثوب وأراد قيمته .والثاني: أن فيه إضماراً .أي حذف مضاف ،يعني: إلا قيمة ثوب .فمن قال يقدم المجاز على الإضمار قال «إلا ثوباً » مجاز ،أطلق الثوب وأراد القيمة .كإطلاق الدم على الدية .ومن قال يقدم الإضمار على المجاز قال «إلا ثوباً » أي إلا قيمة ثوب .واعتمد صاحب مراقي السعود تقديم المجاز على الإضمار في قوله:
وبعد تخصيص مجاز قبلي *** الإضمار فالنقل على المعول
ومعنى البيت: أن المقدم عندهم التخصيص ،ثم المجاز ،ثم الإضمار ،ثم النقل .مثال تقديم التخصيص على المجاز إذا احتمل اللفظ كل واحد منهماقوله تعالى:{فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} يحتمل التخصيص ،لأن بعض المشركين كالذميين والمعاهدين أخرجهم دليل مخصص لعموم المشركين .ويحتمل عند القائلين بالمجاز أنه مجاز مرسل ،أطلق فيه الكل وأراد البعض .فيقدم التخصيص لأمرين: أحدهماأن اللفظ يبقى حقيقة فيما لم يخرجه المخصص ،والحقيقة مقدمة على المجاز الثانيأن اللفظ يبقى مستصحباً في الأفراد الباقية بعد التخصيص من غير احتياج إلى قرينة .ومثال تقديم المجاز على الإضمار عند احتمال اللفظ لكل واحد منهماقول السيد لعبده الذي هو أكبر منه سناً: أنت أبي ،يحتمل أنه مجاز مرسل ،من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم .أي أنت عتيق .لأن الأبوة يلزمها العتق .ويحتمل الإضمار .أي أنت مثل أبي في الشفقة والتعظيم .فعلى الأول يعتق .وعلى الثاني لا يعتق .ومن أمثلته المسألة التي نحن بصددها .ومثال تقديم الإضمار على النقل عند احتمال اللفظ لكل واحد منهما قوله تعالى:{وَحَرَّمَ الرِّبَا} يحتمل الإضمار .أي أخذ الربا وهو الزيادة في بيع درهم بدرهمين مثلاً .وعلى هذا لو حذف الدرهم الزائد لصح البيع في الدرهم بالدرهم .ويحتمل نقل الربا إلى معنى العقد .فيمتنع عقد بيع الدرهم بالدرهمين .ولو حذف الزائد فلا بد من عقد جديد مطلقاً .
قال مقيده عفا الله عنه: وعلى هذين الوجهين اللذين ذكروهما في «له علي ألف دينارٍ إلا ثوباً » وهما الإضمار والنقل يرجع الاستثناء إلى كونه متصلاً ،لأن قيمة الثوب من جنس الألف التي أقر بها .سواء قلنا إن القيمة مضمرة ،أو قلنا إنها مُعبر عنها بلفظ الثوب .
التنبيه الثالث
اعلم أن الخلاف في صحة الاستثناء المنقطع هو في الحقيقة خلاف لفظي .لأن الذين منعوه لم يمنعوه بالكلية ،وإنما قالوا: إنه ليس من الاستثناء الحقيقي ،لأن أداة الاستثناء فيه بمعنى لكن ،فهو إلى الاستدراك أقرب منه إلى الاستثناء .وبعض القائلين بالاستثناء المنقطع يقول: إن الثوب في المثال المتقدم لغو ،ويعد ندماً من المقر بالألف .والنسبة بين الاستثناء المتصل والمنقطع عند القائلين به قيل إنها نسبة تواطؤ .وقيل: إنها من قبيل الاشتراك .وإلى مسألة الاستثناء المنقطع والفرق بينه وبين المتصل أشار في مراقي السعود بقوله:
والحكم بالنقيض للحكم حصل *** لما عليه الحكم قبل متصل
وغيره منقطع ورجحا *** جوازه وهو مجاز أوضحا
فلتنم ثوباً بعد ألف درهم *** الحذف والمجاز أو للندم
وقيل بالحذف لدى الإقرار *** والعقد معنى الواو فيه جار
بشركة وبالتواطي قالا *** بعض وأوجب فيه الاتصالا
وما ذكرنا من أن الاستثناء في قوله تعالى:{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَاماً} منقطع هو الظاهر .وقيل: هو من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم ،كقول نابغة ذبيان:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
وقول الآخر:
فما يك في من عيب فإني *** جبان الكلب مهزول الفصيل
وعلى هذا القول فالآية كقوله:{وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} الآية ،وقوله:{وَمَا نَقَمُواْ إِلاَ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} ونحو ذلك من الآيات كما تقدم مستوفى في سورة «براءة » .
وقوله في هذه الآية الكريمة:{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً 62} فيه سؤال معروف ،وهو أن يقال: ما وجه ذكر البكرة والعشي ،مع أن الجنة ضياء دائم ولا دليل فيها .وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة:
الأولأن المراد بالبكرة والعشي قدر ذلك من الزمن ،كقوله:{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي قدر شهر .وروي معنى هذا عن ابن عباس ،وابن جريج وغيرهما .
الجواب الثانيأن العرب كانت في زمنها ترى أن من وجد غداءً وعشاءً فذلك الناعم ،فنزلت الآية مرغبة لهم وإن كان في الجنة أكثر من ذلك .ويروى هذا عن قتادة ،والحسن ،ويحيى بن أبي كثير .
الجواب الثالثأن العرب تعبر عن الدوام بالبكرة والعشي ،والمساء والصباح ،كما يقول الرجل:
أنا عند فلان صباحاً ومساءً ،وبكرة وعشياً .يريد الديمومة ولا يقصد الوقتين المعلومين .
الجواب الرابعأن تكون البكرة هي الوقت الذي قبل اشتغالهم بلذاتهم .والعشي: هو الوقت الذي بعد فراغهم من لذاتهم ،لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال .وهذا يرجع معناه إلى الجواب الأول .
الجواب الخامسهو ما رواه الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول ) من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا: قال رجل: يا رسول الله ،هل في الجنة من ليل ؟قال: «وما يهيجك على هذا » ؟قال: سمعت الله تعالى يذكر{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً 62} فقلت: الليل بين البكرة والعشي .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس هناك ليل ،إنما هو ضوء ونور ،يرد الغدو على الرّواح والرّواح على الغدو ،تأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا ،وتسلم عليهم الملائكة » انتهى بواسطة نقل صاحب الدر المنثور والقرطبي في تفسيره .وقال القرطبي بعد أن نقل هذا: وهذا في غاية البيان لمعنى الآية .وقد ذكرناه في كتاب ( التذكرة ) ثم قال: وقال العلماء ليس في الجنة ليل ولا نهار ،وإنما هم في نور أبداً ،إنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب ،وإغلاق الأبواب .ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب ،وفتح الأبواب .ذكره أبو الفرج الجوزي والمهدوي وغيرهما ا ه منه .وهذا الجواب الأخير الذي ذكره الحكيم الترمذي عن الحسن وأبي قلابة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم راجع إلى الجواب الأول .والعلم عند الله تعالى .