وقوله:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي أجبناه ونجيناه من الغم الذي هو فيه في بطن الحوت ،وإطلاق استجاب بمعنى أجاب معروف في اللغة ،ومنه قول كعب بن سعد الغنوي:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى *** فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية: من نداء نبيه يونس في تلك الظلماتهذا النداء العظيم ،وأن الله استجاب له ونجاه من الغم أوضحه في غير هذا الموضع .
وبين في بعض المواضع: أنه لو لم يسبح هذا التسبيح العظيم للبث في بطن الحوت إلى يوم البعث ولم يخرج منه .وبين في بعضها أنه طرحه بالعراء وهو سقيم .
وبين في بعضها: أنه خرج بغير إذن كخروج العبد الآبق ،وأنهم اقترعوا على من يلقى في البحر فوقعت القرعة على يونس أنه هو الذي يلقى فيه .
وبين في بعضها: أن الله تداركه برحمته ؛ولو لم يتداركه بها لنبذ بالعراء في حال كونه مذموماً ،ولكنه تداركه بها فنبذ غير مذموم ،قال تعالى في «الصافات »:{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 139إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ 140 فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ 141 فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيم 142 ٌفَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ 143 لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 144 فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيم 145 ٌوَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ 146 وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ 147 فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ 148} .فقوله في آيات «الصافات » المذكورة{إِذْ أَبَقَ} أي حين أبق ،وهو من قول العرب: عبد آبق ،لأن يونس خرج قبل أن يأذن له ربه ،ولذلك أطلق عليه اسم الإباق .واستحقاق الملامة في قوله:{وَهُوَ مُلِيمٌ} لأن المليم اسم فاعل ألام إذا فعل ما يستوجب الملام .وقوله:{فَسَاهَمَ} أي قارع بمعنى أنه وضع مع أصحاب السفينة سهام القرعة ليخرج سهم من يلقى في البحر .وقوله:{فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} أي المغلوبين في القرعة ؛لأنه خرج له السهم الذي يلقى صاحبه في البحر .ومن ذلك قول الشاعر:
قتلنا المدحضين بكل فج *** فقد قرت بقتلهم العيون
وقوله{فَنَبَذْنَاهُ} أي طرحناه ،بأن أمرنا الحوت أن يلقيه بالساحل .والعراء: الصحراء .وقول من قال: العراء الفضاء أو المتسع من الأرض ،أو المكان الخالي أو وجه الأرضراجع إلى ذلك ،ومنه قول الشاعر وهو رجل من خزاعة:
ورفعت رجلالاً أخاف عثارها *** ونبذت بالبلد العراء ثيابي
وشجرة اليقطين: هي الدباء .وقوله:{وَهُوَ سَقِيمٌ} أي مريض لما أصابه من التقام الحوت إياه ،وقال تعالى في «القلم » .{وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُوم 48 ٌلَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُوم 49 ٌفَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ 50} فقوله في آية «القلم » هذه:{إِذْ نَادَى} أي نادى أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ،وقوله:{وَهُوَ مَكْظُومٌ} أي مملوء غماً ،كما قال تعالى:{وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} وهو قول ابن عباس ومجاهد .وعن عطاء وأبي مالك{مَكْظُومٌ}: مملوء كرباً .قال الماوردي: والفرق بين الغم والكرب: أن الغم في القلب .والكرب في الأنفاس .وقيل{مَكْظُومٌ} محبوس .والكظم: الحبس ؛ومنه قولهم: كظم غيظه ،أي حبس غضبه ،قاله ابن بحر .وقيل: المكظوم المأخوذ بكظمه ،وهو مجرى النفس ،قاله المبردانتهى من القرطبي .
وآية «القلم » المذكورة تدل على أن نبي الله يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عجل بالذهاب ومغاضبة قومه ،ولم يصبر الصبر اللازم بدليل قوله مخاطباً نبينا صلى الله عليه وسلم فيها:{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} الآية .فإن أمره لنبينا صلى الله عليه وسلم بالصبر ونهيه إياه أن يكون كصاحب الحوتدليل على أن صاحب الحوت لم يصبر كما ينبغي .وقصة يونس ،وسبب ذهابه ومغاضبته قومه مشهورة مذكورة في كتب التفسير .وقد بين تعالى في سورة «يونس »: أن قوم يونس آمنوا فنفعهم إيمانهم دون غيرهم من سائر القرى التي بعثت إليهم الرسل ،وذلك في قوله:{فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمنوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْي في الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ 98} .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{وَكَذلك نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ 88} يدل على أنه ما من مؤمن يصيبه الكرب والغم فيبتهل إلى الله داعياً بإخلاص ،إلا نجاه الله من ذلك الغم ،ولاسيما إذا دعا بدعاء يونس هذا .وقد جاء في حديث مرفوع عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال في دعاء يونس المذكور: «لم يدع به مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له » رواه أحمد والترمذي وابن أبي حاتم وابن جرير وغيرهم .والآية الكريمة شاهدة لهذا الحديث شهادة قوية كما ترى ،لأنه لما ذكر أنه أنجى يونس شبه بذلك إنجاءه المؤمنين .وقوله{نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ 88} صيغة عامة في كل مؤمن كما ترى .وقرأ عامة القراء السبعة غير ابن عامر وشعبة عن عاصم{وَكَذلك نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ 88} بنونين أولاهما مضمومة ،
والثانية ساكنة بعدها جيم مكسورة مخففة فياء ساكنة ،وهو مضارع أنجى الرباعي على صيغة أفعل ،والنون الأولى دالة على العظمة ،وقرأ ابن عامر وشعبة عن عاصم{وَكَذلك نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ 88} بنون واحدة مضمومة بعدها جيم مكسورة مشددة فياء ساكنة .وهو على هذه القراءة بصيغة فعل ماض مبني للمفعول من نجى المضعفة على وزن فعل بالتضعيف .وفي كلتا القراءتين إشكال معروف .أما قراءة الجمهور فهي من جهة القواعد العربية واضحة لا إشكال فيها ،ولكن فيها إشكال من جهة أخرى ،وهي: أن هذا الحرف إنما كتبه الصحابة في المصاحف العثمانية بنون واحدة ،فيقال: كيف تقرأ بنونين وهي في المصاحف بنون واحدة ؟وأما على قراءة ابن عامر وشعبة بالإشكال من جهة القواعد العربية ،لأن نجى على قراءتهما بصيغة ماض مبني للمفعول ،فالقياس رفع{الْمُؤْمِنِينَ} بعده على أنه نائب الفاعل ،وكذلك القياس فتح باء «نجى » لا إسكانها .
وأجاب العلماء عن هذا بأجوبة: منها ما ذكره بعض الأئمة ،وأشار إليه ابن هشام في باب الإدغام من توضيحه: أن الأصل في قراءة ابن عامر وشعبة «ننجي » بفتح النون الثانية مضارع نجى مضعفاً ،فحذفت النون الثانية تخفيفاً .أو ننجي بسكونها مضارع أنجى وأدغمت النون في الجيم لاشتراكهما في الجهر والانفتاح والتوسط بين القوة والضعف ،كما أدغمت في «إجاصة وإجابة » بتشديد الجيم فيهما ،أو الأصل «إنجاصة وإنجانة » فأدغمت النون فيهما .والإجاصة: واحدة الإجاص ،قال في القاموس: الإجاص بالكسر مشدداً: ثمر معروف دخيل ،لأن الجيم والصاد لا يجتمعان في كلمة ،الواحدة بهاء .ولا تقل انجاص ،أو لغية ا ه .والإجانة .واحدة الأجاجين .قال في التصريح: وهي بفتح الهمزة وكسرها .قال صاحب الفصيح: قصربة يعجن فيها ويغسل فيها .ويقال: إنجانة كما يقال إنجاصة ،وهي لغة يمانية فيهما أنكرها الأكثرون ا ه .فهذا وجهان في توجيه قراءة ابن عامر وشعبة ،وعليهما فلفظة «المؤمنين » مفعول به ل«ننجي » .
ومن أجوبة العلماء عن قراءة ابن عامر وشعبة: أن «نجى » على قراءتهما فعل ماض مبني للمفعول ،والنائب عن الفاعل ضمير المصدر ،أي نجّى هو أي الإنجاء ،وعلى هذا الوجه فالآية كقراءة من قرأ{لِيَجْزِىَ قَوْماً} الآية ،ببناء «يجزي » للمفعول والنائب ضمير المصدر ،أي ليجزي هو أي الجزاء ونيابة المصدر عن الفاعل في حال كون الفعل متعدياً للمفعول ترد بقلة ،كما أشار له في الخلاصة بقوله:
وقابل من ظرف أو من مصدر *** أو حرف جر بنيابة حري
ولا ينوب بعض هذا إن وجد *** في اللفظ مفعول به وقد يرد
ومحل الشاهد منه قوله: «وقد يرد » وممن قال بجوار ذلك الأخفش والكوفيون وأبو عبيد .ومن أمثلة ذلك في كلام العرب قول جرير يهجو أم الفرزدق:
ولو ولدت قفيرة جرو كلب *** لسب بذلك الجرو الكلابا
يعني لسب هو أي السب .وقول الراجز:
لم يعن بالعلياء إلا سيدا *** ولا شفى ذا الغي إلا ذو هدى
وأما إسكان ياء «نجي » على هذا القول فهو على لغة من يقول من العرب: رضي ،وبقي بإسكان الياء تخفيفاً .ومنه قراءة الحسن{وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا} بإسكان ياء «بقي » ومن شواهد تلك اللغة قول الشاعر: خمر الشيب لمنى تخميرا *** وحدا بي إلى القبور البعيرا
ليت شعري إذ القيامة قامت *** ودعى بالحساب أين المصيرا
وأما الجواب عن قراءة الجمهور فالظاهر فيه أن الصحابة حذفوا النون في المصاحف لتمكن موافقة قراءة ابن عامر وشعبة للمصاحف لخفائها ،أما قراءة الجمهور فوجهها ظاهر ولا إشكال فيها ،فغاية الأمر أنهم حذفوا حرفاً من الكلمة لمصلحة مع تواتر الرواية لفظاً بذكر الحرف المحذوف والعلم عند الله تعالى .