ولما قال تعالى:{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} أقام الدليل على ذلك بقوله:{رَبّ * السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} ،فكونه خالق السماوات والأرض الذي جعل فيها المشارق والمغارب ،برهان قاطع على أنه المعبود وحده .
وهذا البرهان القاطع الذي أقامه هنا على أنه هو الإله المعبود وحده ،أقامه على ذلك أيضًا في غير هذا الموضع ؛كقوله تعالى في سورة «البقرة »:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ واحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ} [ البقرة: 163] ،فقد أقام البرهان على ذلك بقوله بعده متّصلاً به:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِى في الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخّر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} [ البقرة: 164] .
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت: ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات ؟قلت: إما أن تدلّ على ترتّب معانيها في الوجود كقوله:
يا لهف زيابة للحارث ال*** صابح فالغانم فالآئب
كأنه قيل: الذي صبح فغنم فآب ،وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك: خذ الأفضل فالأكمل ،واعمل الأحسن فالأجمل .وإما على ترتّب موصوفاتها في ذلك كقوله: رحم اللَّه المحلقين فالمقصرين ،فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات .
فإن قلت: فعلى أي هذه القوانين هي فيما أنت بصدده ؟
قلت: إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتّب الصفات في التفاضل ،وإن ثلثته فهي للدلالة على ترتّب الموصوفات فيه .
بيان ذلك: أنك إذا أجريت هذه الأوصاف على الملائكة ،وجعلتهم جامعين لها فعطفها بالفاء يفيد ترتّبًا لها في الفضل ،إما أن يكون الفضل للصف ،ثم للزجر ثم للتلاوة .وإما على العكس ،وكذلك إن أردت العلماء وقواد الغزاة .وإن أجريت الصفة الأولى على طوائف والثانية والثالثة على أُخر ،فقد أفادت ترتّب الموصوفات في الفضل أعني أن الطوائف الصافات ذوات فضل ،والزاجرات أفضل ،والتاليات أبهر فضلاً أو على العكس ،وكذلك إذا أردت بالصافات الطير ،وبالزاجرات كل ما يزجر عن معصية ،وبالتاليات كل نفس تتلو الذكر ،فإن الموصوفات مختلفة ،انتهى كلام الزمخشري في «الكشاف » .
قال مقيّده عفا اللَّه عنه وغفر له: كلام صاحب الكشاف هذا نقله عنه أبو حيان ،والقرطبي ،ولم يتعقّبوه ،والظاهر أنه كلام لا تحقيق فيه ،ويوضح ذلك اعتراف الزمخشري نفسه بأنه لا يدري ما ذكره: هل هو كذا أو على العكس ،وذلك صريح في أنه ليس على علم مما يقوله ؛لأن من جزم بشيء ثم جوّز فيه النقيضين دلّ ذلك على أنه ليس على علم مما جزم به .
والأظهر الذي لا يلزمه إشكال أن الترتيب بالفاء لمجرّد الترتيب الذكري والإتيان بأداة الترتيب لمجرد الترتيب الذكري فقط ،دون إرادة ترتيب الصفات أو الموصوفات أسلوب عربيّ معروف جاء في القرآن في مواضع ،وهو كثير في كلام العرب .
ومن أمثلته في القرآن العظيم ،قوله تعالى:{فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أدراَكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ} [ البلد: 11-17] الآية ،فلا يخفى أن{ثُمَّ} حرف ترتيب وأن المرتب به الذي هو كونه{منَ الذين آمنوا} لا ترتّب له على ما قبله إلا مطلق الترتيب الذكري ،ومن ذلك أيضًا قوله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيء} [ الأنعام: 153-154] الآية ،كما لا يخفى أن الترتيب فيه ذكري .
وقد قدّمنا الكلام على هذا في سورة «البقرة » ،في الكلام على قوله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}[ البقرة: 199] ،ومن أمثلة ذلك في كلام العرب قوله:
إن من ساد ثم ساد أبوه*** ثم قد ساد قبل ذلك جدّه
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} ،لم يذكر في هذه الآية إلا المشارق وحدها ،ولم يذكر فيها المغارب .
وقد بيَّنا في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب »: وجه اختلاف ألفاظ الآيات في ذلك ،فقلنا فيه في الكلام على قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [ البقرة: 115] ،ما لفظه أفرد في هذه الآية الكريمة المشرق والمغرب ،وثناهما في سورة «الرحمان » ،في قوله تعالى:{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [ الرحمن: 17] ،وجمعهما في سورة «سأل سائل » ،في قوله تعالى:{فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [ المعارج: 40] ،وجمع المشارق في سورة «الصافّات » ،في قوله تعالى:{رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [ الصافات: 5] .
والجواب: أن قوله هنا:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ،المراد به جنس المشرق والمغرب ،فهو صادق بكل مشرق من مشارق الشمس التي هي ثلاثمائة وستّون ،وكل مغرب من مغاربها التي هي كذلك ،كما روي عن ابن عباس وغيره .
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة ،ما نصّه: وإنما معنى ذلك:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ} الذي تشرق منه الشمس كل يوم ،{وَالْمَغرِبِ} الذي تغرب فيه كل يوم .
فتأويله إذا كان ذلك معناه: وللَّه ما بين قطري المشرق وقطري المغرب إذا كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الذي بعده ،وكذلك غروبها ،انتهى منه بلفظه .
وقوله:{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [ الرحمن: 17] ،يعني مشرق الشتاء ،ومشرق الصيف ومغربهما ،كما عليه الجمهور .وقيل: مشرق الشمس والقمر ومغربهما .
وقوله:{بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [ المعارج: 40] ،أي: مشارق الشمس ومغاربها ،كما تقدم .وقيل: مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها ،والعلم عند اللَّه تعالى .