قوله تعالى:{وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} .
الظن هنا بمعنى اليقين ،لأن الكفار يوم القيامة إذا عاينوا العذاب ،وشاهدوا الحقائق ،علموا في ذلك الوقت أنهم ليس لهم من محيص ،أي ليس لهم مفر ولا ملجأ .
والظاهر أن المحيص مصدر ميمي ،من حاص يحيص بمعنى حاد وعدل وهرب .
وما ذكرنا من أن الظن في هذه الآية الكريمة بمعنى اليقين والعلم ،هو التحقيق إن شاء الله ،لأن يوم القيامة تنكشف فيه الحقائق ،فيحصل للكفار العلم بها لا يخالجهم في ذلك شك ،كما قال تعالى عنهم ،إنهم يقولون يوم القيامة{رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [ السجدة: 12] .وقال تعالى:{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [ مريم: 38] .وقال تعالى:{فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ ق: 22] .وقال تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا} [ الأنعام: 30] الآية .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى:{بَلِ ادَارَكَ عِلْمُهُمْ في الآخرة} [ النمل: 66] .
ومعلوم أن الظن يطلق في لغة العرب ،التي نزل بها القرآن على معنيين:
أحدهما: الشك كقوله{إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [ يونس: 36] ،وقوله تعالى عن الكفار:{إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [ الجاثية: 32] .
والثاني: هو إطلاق الظن مراداً به العلم واليقين ،ومنه قوله تعالى هنا:{وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} أي أيقنوا ،أنهم ليس لهم يوم القيامة محيص ،أي لا مفر ولا مهرب لهم من عذاب ربهم ،ومنه بهذا المعنى قوله تعالى:{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} [ الكهف: 53] أي أيقنوا ذلك وعلموه ،وقوله تعالى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [ البقرة: 46] وقوله تعالى:{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [ البقرة: 249] وقوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ إني ظَنَنتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [ الحاقة: 19 -20] ،فالظن في الآيات المذكورة كلها بمعنى اليقين .
ونظير ذلك من كلام العرب قول دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج *** سراتهم في الفارسي المسرد
وقول عميرة بن طارق:
بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم *** وأجعل مني الظن غيباً مرجما
والظن في البيتين المذكورين بمعنى اليقين ،والفعل القلبي في الآية المذكورة التي هي قوله:{وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} معلق عن العمل في المفعولين بسبب النفي بلفظة ما في قوله:{مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} كما أشار له في الخلاصة بقوله:
*والتزم التعليق قبل نفي «ما » *