/م12
قوله تعالى:{وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} .
يعني جل وعلا أنه جعل لبني آدم ما يركبونه من الفلك التي هي السفن ،ومن الأنعام ليستووا أي يرتفعوا معتدلين على ظهوره ثم يذكروا في قلوبهم نعمة ربهم عليهم بتلك المركوبات ثم يقولوا بألسنتهم مع تفهم معنى ما يقولون{سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [ الزخرف: 13] .
وقوله: «سبحان » قد قدمنا في أول سورة بني إسرائيل معناه ،بإيضاح وأنه يدل على تنزيه الله جل وعلا أكمل التنزيه وأتمه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله والإشارة في قوله{هَذَا} راجعة إلى لفظ{مَا} من قوله:{مَا تَرْكَبُونَ} وجمع الظهور نظراً إلى معنى{مَا} ،لأن معناها عام شامل لكل ما تشمله صلتها ولفظها مفرد ،فالجمع في الآية باعتبار معناها ،والإفراد باعتبار لفظها .
وقوله:{الذي سَخَّرَ لَنَا هذا} أي الذي ذلل لنا هذا الذي هو ما نركبه من الأنعام والسفن لأن الأنعام لو لم يذللها الله لهم لما قدروا عليها ولا يخفى أن الجمل أقوى من الرجل ،وكذلك البحر لو لم يذلله لهم ويسخر لهم إجراء السفن فيه لما قدروا على شيء من ذلك .
وقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي مطيقين .والعرب تقول: أقرن الرجل للأمر وأقرنه إذا كان مطيقاً له كفؤاً للقيام به من قولهم: أقرنت الدابة للدابة ،بمعنى أنك إذا قرنتهما في حبل قدرت على مقاومتها ،ولم تكن أضعف منها ،فتجرها لأن الضعيف إذا لز في القرن أي الحبل ،مع القوي جره ولم يقدر على مقاومته ،كما قال جرير:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن *** لم يستطع صولة البزل القناعيس
وهذا المعنى معروف في كلام العرب ،ومنه قول عمرو بن معد يكرب وقد أنشده قطرب لهذا المعنى:
لقد علم القبائل ما عقيل *** لنا في النائبات بمقرنينا
وقول ابن هرمة:
وأقرنت ما حملتني ولقلما *** يطاق احتمال الصدياد عدو الهجر
وقول الآخر:
ركبتم صعبتي أشراً وحيفا *** ولستم للصعاب بمقرنينا
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن ما ذكر من السفن والأنعام لو لم يذلله الله لهم لما أقرنوا له ولما أطاقوه جاء مبيناً في آيات أخر .قال تعالى في ركوب الفلك:{وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ في الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [ يس: 41 -42] .وقال تعالى:{وَهُوَ الذي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [ النحل: 14] الآية .وقال تعالى:{اللَّهُ الذي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [ الجاثية: 12] الآية .وقال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ في الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ} [ إبراهيم: 32] الآية .وقال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ التي تَجْرِى في الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} [ البقرة: 164] .وقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا في الأرض وَالْفُلْكَ تَجْرِى في الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [ الحج: 65] ،والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وقال تعالى في تسخير الأنعام:{وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [ يس: 72] وقال تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون َلَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [ الحج: 36 -37] إلى غير ذلك من الآيات .