وقوله تعالى:{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أظهر الأقوال فيه عندي ولا ينبغي العدول عنه في نظري ،أن لفظة عن في الآية سببية كقوله تعالى:{وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} [ هود: 53] أي بسبب قولك ،ومن أجله ،والضمير المجرور بعن راجع إلى القول المختلف ،والمعنى يؤفك أي يصرف عن الإيمان بالله ورسوله عنه ،أي عن ذلك القول المختلف أي بسببه من أفك أي من سبقت له الشقاوة في الأزل ،فحرم الهدى وأفك عنه ،لأن هذا القول المختلف يكذب يعضه بعضاً ويناقضه .
ومن أوضح الأدلة على كذب القول وبطلانه اختلافه وتناقضه كما لا يخفى ،فهذا القول المختلف الذي يحاول كفار مكة أن يصدوا به الناس عن الإسلام ،الذي يقول فيه بعضهم: إن الرسول ساحر ،وبعضهم يقول شاعر ،وبعضهم يقول: كذاب .ظاهر البطلان لتناقضه وتكذيب بعضه لبعض ،فلا يصرف عن الإسلام بسببه إلا من صرف ،أي صرفه الله عن الحق لشقاوته في الأزل فمن لم يكتب عليه في سابق علم الله الشقاوة والكفر لا يصرفه عن الحق قول ظاهر الكذب والبطلان لتناقضه .
وهذا المعنى جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى:{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [ الصافات: 161-163] .
ومعنى هذه الآية أن دين الكفار ،الذي هو الشرك بالله وعبادة الأوثان ،مع حرصهم على صد الناس عن دين الإسلام إليه ما هم بفاتنين ،أي ليسوا بمضلين عليه أحداً لظهور فساده وبطلانه إلا من هو صال الجحيم ،أي إلا من قدر الله عليه الشقاوة وأنه من أهل النار في سابق علمه ،هذا هو الظاهر لنا في معنى هذه الآية الكريمة .
وأكثر المفسرين على أن الضمير في قوله:{يُؤْفَكُ عَنْهُ} راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن ،أي يصرف عن الإيمان بالنبي أو القرآن ،من أفك أي صرف عن الحق ،وحرم الهدي لشدة ظهور الحق في صدق النبي صلى الله عليه وسلم ،وأن القرآن منزل من الله ،وهذا خلاف ظاهر السياق كما ترى .
وقول من قال: يؤفك عنه .أي يصرف عن القول المختلف الباطل من أفك ،أي من صرف عن الباطل إلى الحق لا يخفى بعده وسقوطه .
والذين قالوا: هذا القول يزعمون أن الإفك يطلق على الصرف عن الحق إلى الباطل ،وعن الباطل إلى الحق ،ويبعد هذا أن القرآن لم يرد فيه الإفك مراد به إلا الصرف عن الخير إلى الشر دون عكسه .