الفاء في قوله:{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} ،تدل على أن علة ذلك هي الخوف من الله في دار الدنيا ،وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإشفاق الذي هو الخوف الشديد من عذاب الله في دار الدنيا ،سبب للسلامة منه في الآخرة ،يفهم من دليل خطابه ،أعني مفهوم مخالفته أن من لم يخف من عذاب الله في الدنيا لم ينج منه في الآخرة .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة بمنطوقها ومفهومها جاء موضحاً في غير هذا الموضوع .فذكر تعالى أن السرور في الدنيا وعدم الخوف من الله سبب العذاب يوم القيامة ،وذلك في قوله{وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [ الانشقاق: 10 -14] الآية .
وقد تقرر في مسلك الإيماء والتنبيه أن إن المكسورة المشددة من حروف التعليل ،فقوله:{إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً} ،علة لقوله:{فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً} .
والمسرور في أهله في دار الدنيا ليس بمشقق ولا خائف ،ويؤيد ذلك قوله بعده:{إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} ،لأن معناه ،ظن ألن يرجع إلى الله حياً يوم القيامة ،ولا شك أن من ظن أنه لا يبعث بعد الموت لا يكون مشفقاً في أهله خوفاً من العذاب ،لأنه لا يؤمن بالحساب والجزاء ،وكون لن يحور ،بمعنى لن يرجع معروف في كلام العرب ،ومنه قول مهلهل بن ربيعة التغلبي:
أليلتنا بذي حسم أنيري *** إذا أنت انقضيت فلا تحوري
فقوله: فلا تحوري ،أي فلا ترجعي .
وقول لبيد بن ربيعة العامري:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه *** يحور رماداً بعد ما هو ساطع
أي يرجع رماداً ،وقيل: يصير ،والمعنى واحد .وقوله تعالى:{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَال في سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُوم ٍلاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [ الواقعة: 41 -47] الآية ،لأن تنعمهم في الدنيا المذكور في قوله{مُتْرَفِينَ} ،وإنكارهم للبعث المذكور في قوله{أَئذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} الآية .دليل على عدم إشفاقهم في الدنيا ،وهو علة كونهم في سموم وحميم .
وقد قدمنا قريباً أن إن المكسورة المشددة من حروف التعليل ،فقوله تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} الآية .علة لقوله{في سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} الآية .
وقد ذكر جل وعلا أن الإشفاق من عذاب الله من أسباب دخول الجنة والنجاة من العذاب يوم القيامة ،كما دل عليه منطوق آية الطور هذه ،قال تعالى في المعارج{وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}إلى قوله{أُوْلَئِكَ في جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} [ المؤمنون: 57 -61] ،وذكر ذلك من صفات أهل الجنة في قوله تعالى{إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ}إلى قوله{أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ في الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [ النحل: 38] ،وقد قال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * في جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [ الواقعة: 10 -12] .
وقوله في آية الواقعة المذكورة:
{وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} ،أي يديمون ويعزمون على الذنب الكبير ،كالشرك وإنكار البعث ،وقيل المراد بالحنث: حنثهم في اليمين الفاجرة كما في قوله تعالى:{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ} [ النحل: 38] .