قوله تعالى:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه للعلماء من التفسير وكل واحد منها له مصداق في كتاب الله تعالى:
الأول: أن المعنى ،وهو الله في السماوات وفي الأرض ،أي وهو الإله المعبود في السماوات والأرض ،لأنه جل وعلا هو المعبود وحده بحق في الأرض والسماء ،وعلى هذا فجملة «يعلم » حال ،أو خبر وهذا المعنى يبينه ،ويشهد له قوله تعالى:{وَهُوَ الذي فِي السَّمآءِ إِلَاهٌ وَفِى الاٌّرْضِ إِلَاهٌ} [ الزخرف: 84] أي ،وهو المعبود في السماء والأرض بحق ،ولا عبرة بعبادة الكافرين غيره ،لأنها وبال عليهم يخلدون بها في النار الخلود الأبدي ،ومعبوداتهم ليست شركاء لله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً ،{إِنْ هِي إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [ النجم: 23]{وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [ يونس: 66] .
وهذا القول في الآية أظهر الأقوال ،واختاره القرطبي .
الوجه الثاني: أن قوله{فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرض} يتعلق بقوله{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} أي وهو الله يعلم سركم في السماوات وفي الأرض ويبين هذا القول ويشهد له قوله تعالى:{قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّمَاواتِ والأرض} [ الفرقان: 6] الآية .
قال النحاس: وهذا القول من أحسن ما قيل في الآية نقله عنه القرطبي .
الوجه الثالث: وهو اختيار ابن جرير ،أن الوقف تام على قوله في{السَّمَاواتِ} وقوله{وَفِى الأرض} يتعلق بما بعده ،أي يعلم سركم وجهركم في الأرض ،ومعنى هذا القول: إنهجل وعلامستو على عرشه فوق جميع خلقه ،مع أنه يعلم سر أهل الأرض وجهرهم لا يخفى عليه شيء من ذلك .
ويبين هذا القول ،ويشهد له قوله تعالى:{أَءَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِي تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [ الملك: 16-17] ؟الآية ،وقوله:{الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [ طه: 5] ،مع قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [ الحديد: 4] ،وقوله:{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} [ الأعراف: 7] وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذا المقام بإيضاح في سورة الأعراف .واعلم أن ما يزعمه الجهميه «من أن الله تعالى في كل مكان » مستدلين بهذه الآية على أنه في الأرض ضلال مبين ،وجهل بالله تعالى ،لأن جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأصغر من أن يحل في شيء منها رب السماوات والأرض الذي هو أعظم من كل شيء ،وأعلى من كل شيء ،محيط بكل شيء ولا يحيط به شيء ،فالسماوات والأرض في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل في يد أحدنا ،وله المثل الأعلى ،فلو كانت حبة خردل في يد رجل فهل يمكن أن يقال: إنه حال فيها ،أو في كل جزء من أجزائها لا وكلا ،هي أصغر وأحقر من ذلك ،فإذا علمت ذلك فاعلم أن رب السماوات والأرض أكبر من كل شيء وأعظم من كل «شيء محيط بكل شيء ولا يحيط به شيء » ،ولا يكون فوقه شيء{لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [ سبأ: 3] ،سبحانه وتعالى علواً كبيراً لا نحصي ثناءً عليه ،هو كما أثنى على نفسه{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [ طه: 110] .