{يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمنوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} .
في الآية الأولى إنكار على الذين يقولون ما لا يفعلون ،وفي الآية الثانية بيان شدة غضب الله ومقته على من يكون كذلك ،ولكن لم يبين هنا القول المغاير للفعل المنهى عنه ،والمعاتبون عليه والمستوجب لشدة الغضب إلا أن مجيء الآية الثالثة بعدهما يشعر بموضوع القول والفعل ،وهو الجهاد في سبيل الله .
وقد اتفقت كلمة علماء التفسير على أن سبب النزول مع تعدده عندهم: أنه حول الجهاد في سبيل الله من رغبة في الإذن لهم في الجهاد ومعرفة أحب الأعمال إلى الله ،ونحو ذلك .
وقد بين القرآن في عدة مواضع أن موضوع الآيتين الأولى والثانية فيما يتعلق بالجهاد وتمنيهم إياه .
من ذلك قوله تعالى عنهم:{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}[ محمد: 20] .
ومنها قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}[ النساء: 77] .
ومنها قوله تعالى:{وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً}[ الأحزاب: 15] .
ففي الآية الأولى تمنوا نزول سورة يؤذن فيها بالقتال ،فلما نزلت صار مرضى القلوب كالمغشي عليه من الموت .
وفي الثانية: قيل لهم كفوا أيديكم عن القتال ،فتمنوا الإذن لهم فيه ،فلما كتب عليهم رجعوا وتمنوا لو أخرجوا إلى أجل قريب .
وفي الثالثة: أعطوا العهود على الثبات وعدم التولي ،وكان عهد الله مسؤولاً ،فلما كان في أحد وقع ما وقع وكذلك في حنين ،ويشهد لهذا أيضاً قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِي يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِي بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لأتوها وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدْبَارَ}[ الأحزاب: 13 -15] الآية .
ففي هذا السياق بيان لعتابهم على نقض العهد ،وهو معنى: لم تقولون ما لا تفعلون سواء بسواء ،ويقابل هذا أن الله تعالى امتدح طائفة أخرى منهم حين أوفوا بالعهد وصدقوا ما عاهدوا الله عليه في قوله تعالى:{مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} [ الأحزاب: 23] .
ثم بين الفرق بين الفريقين بقوله بعدها{لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً}[ الأحزاب: 24 -25] الآية ،وذلك في غزوة الأحزاب .
فتبين بهذا أن الفعل المغاير للقول هنا هو عدم الوفاء بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم من قبل فاستوجبوا العتاب عليه ،كما تبين أن الذين وفوا بالعهد استوجبوا الثناء على الوفاء ،وقد استدل بالآية من عموم لفظها على الإنكار على كل من خالف قوله فعله ،سواء في عهد أو وعد أو أمر أو نهي .
ففي الأمر والنهي كقوله تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [ البقرة: 44] .
وكقوله عن نبي الله شعيب لقومه:{وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [ هود: 88] .
وفي العهد قوله:{وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [ الإسراء: 34] .
ومن هذا الوجه ،فقد بحثها الشيخ رحمة الله تعالى عليه في عدة مواضع ،منها في سورة هود عند قول شعيب المذكور .
ومنها عند قوله تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}[ مريم: 54] في سورة مريم .
وبحث فيها الوفاء بالوعد ،والفرق بين الوعد والوعيد ،والوفاء بالوعد والخلف في الوعيد ،وعقد لها مسألة ،وساق آيتي الصف هناك .