قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} .
هذا هو جواب القسم فيما تقدم ،فالواو قد حذفت منه اللام لطول ما بين المقسم به والمقسم عليه .
وقد نوه عنه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند الكلام على قوله تعالى:{إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} ،من سورة ص ،وأنهم استدلوا لهذه الآية عليه .
والأصل: لقد أفلح ،فحذفت اللام لطول الفصل ،وزكاها بمعنى طهَّرها ،وأول ما يطهرها منه دنس الشرك ورجسه ،كما قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ،وتطهيرها منه بالإيمان ثم من المعاصي بالتقوى ،كما في قوله تعالى:{فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى32} ،ثم بعمل الطاعات{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى 14 وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} .
واختلف في مرجع الضمير في زكاها ودساها ،وهو يرجع إلى اختلافهم في{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ،فهل يعود إلى الله تعالى ،كما في{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} ،أم يعود على العبد .
ويمكن أن يستدل لكل قول ببعض النصوص .فمما يستدل به للقول الأول قوله تعالى:{بَلِ اللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً 49} ،وقوله:{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} ،وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند هذه الآية:"اللَّهم أئت نفسي تقواها وزكها ،أنت خير من زكاها ،وأنت وليها ومولاها ".
ومما استدل به للقول الثاني فقوله:{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى 14 وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ،وقوله:{وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} ،وقوله:{فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى 18 وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} ،وقوله:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} ،وكلها كما ترى محتملة ،والإشكال فيها كالإشكال فيما قبلها .
والذي يظهر واللَّه تعالى أعلم: أن الجمع بين تلك النصوص كالجمع في التي قبلها ،وأن ما يتزكى به العبد من إيمان وعمل في طاعة وترك لمعصية ،فإنه بفضل من اللَّه ،كما في قوله تعالى المصرح بذلك{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} .
وكل النصوص التي فيها عود الضمير أو إسناد التزكية إلى العبد ،فإنها بفضل من الله ورحمة ،كما تفضل عليه بالهدى والتوفيق للإيمان ،فهو الذي يتفضل عليه بالتوفيق إلى العمل الصالح .وترك المعاصي ،كما في قولك"لا حول ولا قوة إلا باللَّه "وقوله:{فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} ،وقوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} ،إنما هو بمعنى المدح والثناء ،كما في قوله تعالى:{* قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} ،بل إن في قوله تعالى:{بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً 49} ،الجمع بين الأمرين ،القدري والشرعي ،{بَلِ اللَّهُ يُزَكّي مَن يَشَاءُ} بفضله ،{وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً49} بعدلة .واللَّه تعالى أعلم .