ثم فصل هذا الشتات في التفصيل الآتي{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى 5 وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى 6فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى 7 وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى 8 وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى 9 فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} .
وما أبعد ما بين العطاء والبخل والتصديق والتكذيب واليسرى والعسرى ،وقد أطلق أعطى ليعم كل عطاء من ماله وجاهه وجهده حتى الكلمة الطيبة ،بل حتى طلاقة الوجه ،كما في الحديث"ولو أن أخاك بوجه طلق ".
والحسنى: قيل المجازاة على الأعمال .
وقيل: للخلف على الإنفاق .
وقيل: لا إله إلاَّ اللَّه .
وقيل: الجنة .
والذي يشهد له القرآن هو الأخير لقوله تعالى:{* لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ،فقالوا: الحسنى هي الجنة ،والزيادة النظر إلى وجهه الكريم ،وهذا المعنى يشمل كل المعاني لأنها أحسن خلف لكل ما ينفق العبد ،وخير وأحسن مجازاة على أي عمل مهما كان ،ولا يتوصل إليها إلا بلا إله إلا اللَّه .
وقوله:{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى 7} وقوله:{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى 10} بعد ذكر أعطى واتقى في الأولى ،وبخل واستغنى في الثانية .
قيل: هو دلالة على أن فعل الطاعة ييسر إلى طاعة أخرى ،وفعل المعصية يدفع إلى معصية أخرى .
قال ابن كثير: مثل قوله تعالى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
ثم قال: والآيات في هذا المعنى كثيرة ،دالة على أن الله عزّ وجلّ ،يجازي من قصد الخير بالتوفيق له ،ومن قصد الشر بالخذلان ،وكل ذلك بقدر مقدر .
والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة .وذكر عن أبي بكر عند أحمد ،وعن علي عند البخاري ،وعبد اللَّه بن عمر عند أحمد ،وعدد كثير بروايات متعددة ،أشملها وأصحها حديث علي عند البخاري قال علي:"كنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد في جنازة فقال: ما منكم من أحد إلاَّ وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار "فقالوا: يا رسول الله ،أفلا نتكل ؟ "فقال: اعملوا ،فكل ميسر لما خلق له ،ثم قرأ{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى 5 وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى 6 فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}إلى قوله{لِلْعُسْرَى} فهي من الآيات التي لها تعلق ببحث القدر .
وتقدم مراراً بحث هذه المسألة .والعلم عند الله تعالى .
تنبيه
قال أبو حيان: جاء قوله:{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} على سبيل المقابلة ،لأن العسرى لا تيسير فيها .ا ه .
وهذا من حيث الأسلوب ممكن ،ولكن لا يبعد أن يكون معنى التيسير موجوداً بالفعل ،إذ المشاهد أن من خذلهم اللَّهعياذاً باللَّهيوجد منهم إقبال وقبول وارتياح ،لما يكون أثقل وأشق ما يكون على غيرهم ،ويرون ما هم فيه سهلاً ميسراً لا غضاضة عليهم فيه ،بل وقد يستمرؤون الحرام ويستطعمونه .
كما ذكر لي شخص: أن لصًّا قد كفَّ عن السرقة حياءً من الناس ،وبعد أن كثر ماله وكبر سنه أعطى رجلاً دراهم ليسرق له من زرع جاره ،فذهب الرجل ودار من جهة أخرى وأتاه بثمرة من زرعه هو ،أي زرع اللص نفسه ،فلما أكلها تفلها ،وقال: ليس فيه طعمة المسروق ،فمن أين أتيت به ؟قال: أتيت به من زرعك ،ألا تستحي من نفسك ،تسرق وعندك ما يغنيك .فخجل وكف .
وقد جاء عن عمر نقيض ذلك تماماً ،وهو أنه لما طلب من غلامه أن يسقيه مما في شكوته من لبنه ،فلما طعمه استنكر طعمه ،فقال للغلام: من أين هذا ؟فقال: مررت على إبل الصدقة فحلبوا لي منها ،وها هو ذا ،فوضع عمر إصبعه في فِيه ،واستقاء ما شرب .
إنها حساسية الحرام استنكرها عمر ،وأحس بالحرام فاستقاءه ،وهذا وذاك بتيسير من الله تعالى ،وصدق صلى الله عليه وسلم"اعملوا فكل ميسر لما خلق له ".
ونحن نشاهد في الأمور العادية أصحاب المهن والحرف كل واحد راضٍ بعمله وميسر له ،وهكذا نظام الكون كله ،والذي يهم هنا أن كلاً من الطاعة أو المعصية له أثره على ما بعده .
تنبيه
قيل: إن هذه المقارنة بين: من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ،ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى ،واقعة بين أبي بكر رضي الله عنه ،وبين غيره من المشركين .
ومعلوم أن العبرة بعموم اللفظ فهي عامة في كل من أعطى واتقى وصدق ،أو بخل واستغنى وكذب .واللَّه تعالى أعلم .