وقوله:{وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} ،والوضع يكون للحط والتخفيف ،ويكون للحمل والتثقيل ،فإن عدي بعن كان للحط ،وإن عدي بعلى كان للحمل ،في قولهم: وضعت عنك ،ووضعت عليك ،والوزر لغة الثقل .
ومنه: حتى تضع الحرب أوزارها ،أي ثقلها من سلاح ونحوه .
ومنه الوزير: المتحمل ثقل أميره وشغله ،وشرعاً الذنب كما في الحديث:"ومن سنَّ سنة سيئة ،فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة "،وقد يتعاوران في التعبير كقوله تعالى:{لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً} ،وقوله مرة أخرى{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} .
وقد أفرد لفظ الوزر هنا وأطلق ،ولم يبين ما هو وما نوعه ،فاختلف فيه اختلافاً كثيراً .
فقيل: ما كان فيه من أمر الجاهلية ،وحفظه من مشاركته معهم ،فلم يلحقه شيء منه .
وقيل: ثقل تألمه مما كان عليه قومه ،ولم يستطع تغييره ،وشفقته صلى الله عليه وسلم بهم ،أي كقوله تعالى:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} ،أي أسفاً عليهم .
وقال أبو حيان: هو كناية عن عصمته صلى الله عليه وسلم من الذنوب ،وتطهيره من الأرجاس .
وقال ابن جرير: وغفرنا لك ما سلف من ذنوبك ،وحططنا عنك ثقل أيام الجاهلية التي كنت فيها .
وقال ابن كثير: هو بمعنى{لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} .
فكلام أبي حيان: يدل على العصمة ،وكلام ابن جرير يدل على شيء في الجاهلية ،وكلام ابن كثير مجمل .
وفي هذا المجال مبحث عصمة الأنبياء عموماً ،وهو مبحث أصولي يحققه كتب الأصول لسلامة الدعوة ،وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحثه في سورة طه عند الكلام على قوله تعالى:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} ،وأورد كلام المعتزلة والشيعة والحشوية ،ومقياس ذلك ،عقلاً وشرعاً ،وفي سورة ص عند قوله تعالى:{وَظَنَّ دَاُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} ،ونبه عندها على أن كل ما يقال في داود عليه السلام حول هذا المعنى ،كله إسرائيليات لا تليق بمقام النبوة .ا ه .
أما في خصوصه صلى الله عليه وسلم ،فإنا نورد الآتي: إنه مهما يكن من شيء ،فإن عصمته صلى الله عليه وسلم من الكبائر والصغائر بعد البعثة يجب القطع بها ،لنص القرآن الكريم في قوله تعالى:{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} لوجوب التأسي به وامتناع أن يكون فيه شيء من ذلك قطعاً .
أما قبل البعثة ،فالعصمة من الكبائر أيضًا ،يجب الجزم بها لأنه صلى الله عليه وسلم كان في مقام التهيؤ للنبوة من صغره ،وقد شق صدره في سن الرضاع ،وأخرج منه حظ الشيطان ،ثم إنه لو كان قد وقع منه شيء لأخذوه عليه حين عارضوه في دعوته ،ولم يذكر من ذلك ولا شيء فلم يبق إلا القول في الصغائر ،فهي دائرة بين الجواز والمنع ،فإن كانت جائزة ووقعت ،فلا تمس مقامه صلى الله عليه وسلم لوقوعها قبل البعثة والتكليف ،وأنها قد غفرت وحط عنه ثقلها ،فإن لم تقع ولم تكن جائزة في حقه ،فهذا المطلوب .
وقد ساق الألوسي رحمه الله في تفسيره: أن عمه أبا طالب ،قال لأخيه العباس يوماً:"لقد ضمته إليّ وما فارقته ليلاً ولا نهارًا ولا ائتمنت عليه أحداً "،وذكر قصة بنبيه ومنامه في وسط أولاده أول الليل ،ثم نقله أباه محل أحد أبنائه حفاظاً عليه ،ثم قال:"ولم أر منه كذبة ولا ضحكاً ولا جاهلية ،ولا وقف مع الصبيان وهم يلعبون ".
وذكرت كتب التفسير أنه صلى الله عليه وسلم أراد مرة في صغره أن يذهب لمحل عرس ليرى ما فيه ،فلما دنا منه أخذه النوم ولم يصح إلا على حر الشمس ،فصانه الله من رؤيه أو سماع شيء من ذلك .
ومنه قصة مشاركته في بناء الكعبة حين تعرى ومنع منه حالاً ،وعلى المنع من وقوع شيء منه صلى الله عليه وسلم بقي الجواب على معنى الآية ،فيقال واللَّه تعالى أعلم: إنه تكريم له صلى الله عليه وسلم كما جاء في أهل بدر ،قوله صلى الله عليه وسلم:"لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم "مع أنهم لن يفعلوا محرماً بذلك ،ولكنه تكريم لهم ورفع لمنزلتهم .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يتوب ويستغفر ويقوم الليل حتى تورَّمت قدماه ،وقال:"أفلا أكون عبداً شكوراً ".
فكان كل ذلك منه شكراً للَّه تعالى ،ورفعاً لدرجاته صلى الله عليه وسلم .
وقد جاء:"نعم العبد صهيب ،لو لم يخف الله لم يعصه "،وهو حسنة من حسناته صلى الله عليه وسلم .
أو أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتد على نفسه بالتقصير ،ويعتبر ذنباً يستثقله ويستغفر منه ،كما كان إذا خرج من الخلاء قال:"غفرانك ".
ومعلوم أنه ليس من موجب للاستغفار ،إلا ما قيل شعوره بترك الذكر في تلك الحالة ،استوجب منه ذلك .
وقد استحسن العلماء قول الجنيد: حسنات الأبرار سيئات المقربين ،أو أن المراد مثل ما جاء في القرآن من بعض اجتهاداته صلى الله عليه وسلم ،وفي سبيل الدعوة ،فيرد اجتهاده فيعظم عليه كقصة ابن أم مكتوم ،وعوتب فيه{عَبَسَ وَتَوَلَّى 1 أَن جَاءهُ الأَعْمَى 2} الآية ،ونظيرها ولو كان بعد نزول هذه السورة ،إلا أنه من باب واحد كقوله:{عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} ،وقصة أسارى بدر ،وقوله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} ،واجتهاده في إيمان عمه ،حتى قيل له:{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ،ونحو ذلك .فتحمل الآية عليه ،أو أن للوزر بمعناه اللغوي ،وهو ما كان يثقله من أعباء الدعوة ،وتبليغ الرسالة ،كما ذكر ابن كثير في سورة الإسراء عن الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لما كان ليلة أُسري بي فأصبحت بمكة فظعت ،وعرفت أن الناس مكذّبي ،فقعدت معتزلاً حزيناً ،فمرَّ بي أبو جهل ،فجاء حتى جلس إليه ،فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء ؟فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم ،وقصّ عليه الإسراء ".
ففيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم فظع ،والفظاعة: ثقل وحزن ،والحزن: ثقل .وتوقع تكذيبهم إياه أثقل على النفس من كل شيء .واللَّه تعالى أعلم .